للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على مصالح لم تتضح لنا، جاعلين يقيننا بذلك مُستنتَجًا من استقراء جمهرة الأحكام في سائر الأحوال، إذْ نجد تلك الأحكام حقائق بيِّنة ومصالح واضحة، ولا يُعَدُّ يقيننا ذلك وهمًا، بل تفويضا". (١)

وقد حدد ابن عاشور جملة من المعايير أو الشروط التي تحدِّد مرتبة العلم التي يفيدها الاستقراء بين القطع والظن، ويمكن تلخيصها في الآتي:

١ - "مقدار فيض ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها". (٢) فعلى قدر كثرة الأدلة التي يشملها الاستقراء تكون قوة الإفادة في النتجة المستخلصة منه، فكلما زاد عدد الأدلة والشواهد المستقرأة زادت قوة العلم الذي يفيده الاستقراء.

٢ - خفاء دلالة الأدلة المستقرأة ووضوحها. فمن المعلوم أن الأدلة تتفاوت مراتبها من حيث الوضوح والخفاء، فكلما كانت دلالة الأدلة المستقرأة أكثر وضوحًا وصراحةً زادت قوة نتيجة الاستقراء إلى أن تصل إلى مرتبة اليقين والقطع، وبالعكس، كما قلَّ وضوح دلالة الأدلة وزاد خفاؤُها قَوِيّ جانبُ الظن في نتيجة الاستقراء. وقد مثل ابن عاشور لذلك بكون النصوص الواردة في تحريم الخمر واضحة الدلالة على أن مقصد الشريعة حفظ العقول عن الفساد العارض، ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حدِّ الإسكر وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سدُّ ذريعة إفساد العقل حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريمَ القليل من الخمر أو النبيذ الذي يسكر كثيره فتلك دلالة خفية، ولذلك اختلف الفقهاء في هذا المقصد، واختلفوا تبعًا لذلك في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر. فمن غلب على ظنه كون هذا الأخير مقصدًا شرعيًا سَوَّى بينهما في التحريم وإقامة الحد، ومن لم يغلب على ظنه ذلك فَرَّق بينهما في مرتبة التحريم وفي العقوبة. (٣)


(١) المصدر السابق، ص ٤٦.
(٢) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص ١٥٦.
(٣) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص ١٦١.

<<  <   >  >>