للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فعلى رأي من رأى أن النهي عن أكل لحوم الحمر والأمر بإكفاء قدورها إنما كان لأنها لم تُخَمَّسْ بَعْدُ، يكون الإمام مالك لم يأخذ بظاهر الحديث لأن منع الجند من الأكل يؤدي إلى إضعافهم، وذلك يؤدي إلى عجزهم عن تحقيق مقاصد الشرع من الجهاد. أما على قول من قال إن النهي كان تحريمًا لها ألبتة، (١) وليس لكونها لم تُخَمّس فإن هذا المثال لا يتوجه في هذا الباب.

وقد كره الإمام مالك صيام ستة أيام من شهر شوال، واستند في ذلك إلى أمرين:

الأول: أنه لم يَرَ أهل العلم في المدينة يصومونها، ولم يصح عنده أن أحدًا من السلف كان يصومها.

الثاني: مخالفة ذلك لمقصد من مقاصد الشارع، وهو سدّ ذرائع الفساد ومنها ذرائع البدعة، وفي ذلك يقول: "وإن أهل العلم يكرهون ذلك [أي صيام ست من شوال]، ويخافون بدعته، وأن يُلحِق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك". (٢)

وبغض النظر عن مدى قوة حجة مالك هذه، ومدى صحة مذهبه، فإن الغرض هنا هو بيان كيفية التعارض بين خبر الآحاد والمقاصد الشرعية، وترجيح المقاصد على مقتضى خبر الآحاد.

القسم الثالث: حديث الآحاد (الظني) الذي لا يشهد له أصل قطعي، ولا يُعَارِضُ أصلاً قطعيًّا، فهو محلُّ نظرِ واجتهادِ العلماء، وهو من باب المناسب الغريب. فقد يرفضه البعض بحجة أنه شرع على غير ما عُهِدَ في مثله، ولأن الاستقراء يدلّ على أنه غير موجود، ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي يُعتبر معارضًا لأصول الشرع، إذْ عدم الموافقة يُعَدّ مخالفة، وكلّ ما خالف أصلاً قطعيًّا فهو مردود. وقد يقبله البعض من باب أنه وإن لم يكن موافقًا لأصل فلا مخالفة فيه أيضًا، فإن عضَّد الردَّ عدمُ الموافقة، عضَّد القبولَ عدمُ المخالفة، فيتعارضان، ويبقى أصل العمل بالظن في الشرع


(١) انظر صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب (٢٠)، مج ٢، ج ٤، ص ٣٩٤.
(٢) الموطأ، كتاب الصيام، باب (٢٢)، ج ١، ص ٣١١.

<<  <   >  >>