إن كثيرًا من الناس تغرهم المناصب والرتب، وتخدعهم الألقاب العلمية الضخمة، وما كان شيء من هذا ميزانًا صحيحًا للعلم، ولقد نقدت كثيرًا من أمثال هؤلاء، فتعاظموا واستكبروا، فمنهم من أنف أن يرد عليَّ، ومنهم من سلط بعض أذنابه يشتمني، فما عبأت بهذا ولا بهذا، لا استكبارًا ولا تعاظمًا، ولا لأني طالب علم ورائد حقيقة، ولكِنْ لأني لم أضع نفسي في موازينهم قط.
ومثال آخر من أروع الأمثلة في آداب المتقدمين من الأئمة:
هذا ابن حزم الإمام العظيم، وكل من سمع به يعرف قسوة قلمه، وبديع نقده، وطريف تشنيعه إذا ما بدا له أن يشنع على خصم، بحث بحثًا فقيهًّا في "المُحَلَّى" ليس من مجال القول هنا أن نفصله، فذكر فيه (٦: ٦٦ - ٧٤) مسألة استدل فيها بعض العلماء بحديث رواه ابن وهب عن جرير بن حازم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي. ثم رد صحة الحديث بأن جرير بن حازم قرن في الإسناد بين عاصم بن ضمرة، وهو ثقة، وبين الحارث الأعور، وهو كذاب، وقال (ص ٧٠): وكثير من الشيوخ يجوز عليهم مثل هذا، وهو أن الحارث أسنده، وعاصم لم يسنده، فجمعهما جرير، وأدخل حديث أحدهما في الآخر". وغلا ابن حزم غلوًّا شديدًا بعد ذلك، فقال: "هو حديث هالك، ولو أن جريرًا أسنده عن عاصم وحده، لأخذنا به".
وابن حزم كان يؤلف قبل عصر المطبعة، وكتابه في يده، فكان