وشاء الله أن تتصدر مصر دولة إقراء القرآن الكريم في القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين، وتربع قراؤها على عرش الإقراء والقراءة، ولمع في هذين المجالين أعلام بررة، فبرز في خدمة كتاب الله إقراءً وتأليفا: الشيخ محمد أحمد المتولي المتوفى سنة (١٣١٣هـ= ١٨٩٥م) ، والشيخ محمد مكي نصر، والشيخ علي محمد الضباع المتوفى سنة (١٣٨٠هـ= ١٩٦٠م) والشيخ عامر عثمان العالم الثبت المتوفى سنة (١٤٠٨هـ= ١٩٨٨م) وغيرهم.
أما دنيا التلاوة والقراءة فقد برز من مصر مشاهير القرّاء، الذين ملئوا الدنيا تلاوة خاشعة، وقراءة تأخذ بالألباب، مع جمال في الصوت وحُسن في الأداء، وتمثّل للمعاني، وحضور في القلب، فتسمع القرآن وهو يتلى فتنساب آياته إلى قلبك، وتحيا معانيه في نفسك، كأنك تحيا فيه أو يحيا هو فيك، وحسبك أن يكون من بين هؤلاء الأعلام الشيخ محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، وعبد الفتاح الشعشاعي، وأبو العينين شعيشع، وعبد العظيم زاهر، ومحمود خليل الحصري، ومحمد صديق المنشاوي، وكامل يوسف البهتيمي، وعبد الباسط عبد الصمد.
وقد أثّرت طريقة أداء هؤلاء في قرّاء الدنيا شرقًا وغربًا، فقلدوهم في التلاوة وطريقة الأداء، وتطريب الصوت، مع الاحتفاظ بأصول القراءة.. وشاع بين أهل العلم العبارة السائرة:"القرآن الكريم نزل بمكة وقُرِئ في مصر، وكُتب في إستانبول"، وبلغ من صدق هذه العبارة أنها صارت كالحقائق يصدقها التاريخ، ويؤكدها الواقع.
[عبد الباسط عبد الصمد]
ومن بين الذين لمعوا بقوة في دنيا القراءة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، حيث تبوأ مكانة رفيعة بين أصحاب الأصوات العذبة والنغمات الخلابة، وطار اسمه شرقا وغربا، واحتفى الناس به في أي مكان نزل فيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والشيخ عبد الباسط من مواليد بلدة "أرمنت" التابعة لمحافظة قنا بصعيد مصر سنة (١٣٤٦هـ= ١٩٢٧م) ، حفظ القرآن الكريم صغيرا، وأتمه وهو دون العاشرة من عمره على يد الشيخ محمد سليم، ثم تلقى على يديه القراءات السبع، وكان الشيخ به معجبًا، فآثره بحبه ومودته، حيث وجد فيه نبوغا مبكرا؛ فعمل على إبرازه وتنميته، وكان يصحبه إلى الحفلات التي يدعى إليها، ويدعوه للقراءة والتلاوة وهو لا يزال غضًا لم يتجاوز الرابعة عشرة، وكان هذا مرانًا لصوته وتدريبا لأدائه.
وبدأت شهرة الشيخ في الصعيد مع إحياء ليالي شهر رمضان، حيث تُعقد سرادقات في الشهر الكريم تقيمها الأسر الكبيرة، ويتلى فيها القرآن، وكان الناس يتنافسون في استقدام القرّاء لإحياء شهر رمضان.
كما كانت موالد الأولياء الكبار في الصعيد ميدانًا للقراء، يتلون كتاب الله للزوار، وكان للصعيد قراؤه من أمثال: صدّيق المنشاوي الملقب بـ"قارئ الصعيد" وهو والد القارئين: محمود ومحمد صديق المنشاوي، والشيخ عبد الراضي، وعوضي القوصي، وقد استفاد الشيخ عبد الباسط من طرائقهم في التلاوة، كما تأثر بمشاهير القراء في القاهرة، مثل الشيخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل، وعلي حزين، وكان يقطع عشرات الكيلومترات ليستمع إليهم من مذياع في مقهى، وكانت أجهزة الراديو في ذلك الوقت قليلة لا يملكها كثيرون.