للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الملك عبد العزيز آل سعود

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد:

إن الأمة تتشرف بقراءة سيرة قادتها لأنها تجري في قلوبنا وتسري في دمائنا ومن ضمن هؤلاء القادة بطل المواجهة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي يتعطر التأريخ بذكره وتتجمل الدنيا بخبره لا يمل المنصف من سيرته صال وجال في جزيرة مترامية الأطراف من البحر الأحمر إلى الخليج العربي ومن اليمن إلى الشام وكانت هذه الجزيرة موطناً للقتال والسلب والنهب يسكنها أعراب يعشقون القتال لكن الملك عبد العزيز دخل الرياض في شوال عام (١٣١٩هـ) قادماً من الكويت ومعه ستون مقاتلاً من رجاله بعد رحلة عناء ومشقة يسيرون بالليل ويستريحون بالنهار خوفاً من أعين الخصوم لا يريد الاعتداء وإنما يريد استعادة ملك آبائه وأجداده وتحقق له ذلك لأنه يحمل معه قراناً يهدي وسيفاً يحمي فأسس هذا الملك الظافر دولة فتيه تذكرك البأس والشدة والقوة فحول هذه الجزيرة بفضل الله من الضعف إلى القوة ومن التأخر إلى التقدم ومن الجهل إلى الإيمان ومن التناحر والشحناء إلى السلام والمحبه وأسرع الناس يبايعونه بالملك والتفوا من حوله حباً له لأنه أكثر الناس تضحية وأعظمهم جهداً وأسخاهم يداً وأجمعوا على أنه خير من يحكم الجزيرة لأنه ردع الظالم وأصبح الضعيف قوياً لا أحد يعتدي عليه ولصدق نيته انتشر الأمن وكثر الخير وتمسك أبناءه الملوك بسيرة ومنهج القائد العادل والدهم الملك عبد العزيز فحافظوا على هذا الملك لأنهم هم رمز الإيمان وا لأصالة، والتضحية، والوفاء، هدفهم رفعة الدين، وسيظل ملكهم إن شاء اله علماً خفاقاً تعجز قوي البغي عن إنزاله وشهاباً وضاءً تعجز قوي الشر عن إطفائه وهذا الكتيب كتبته عرفاناً ورداً لجميل هذا الملك الصالح ولأبنائه الملوك لقول الله عزوجل:] ولا تنسو الفضل بينكم [ () ولقول الرسول r: ((من صنع لكم معروفاً فكافئوه)) () وقوله r: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) () وكما قال الشاعر الحطيئة:

من يفعل الخير لم يعدم جوائزه لا يذهب العرف بين الله والناس ()

وكان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يدرس بالحرم والناس جلوس حوله فدخل إعرابي وقال يا ابن عباس قد أحسنت إليك إحسانا فكافئني فقال ابن عباس: ماذا فعلت يا أخا العرب؟ قال: رأيتك عام أول تشرب من زمزم وأصابتك الشمس فظللتك عن الشمس قال: يا غلام! أعطه مائة دينار واكسه حله، فأي معروف أعظم من معروف هذا الملك الذي جعلنا بعد الله نعيش في ظل شريعة عادلة، وفي شهر شوال لعام (١٤١٩هـ) يكون مرور مائة عامة على تأسيس المملكة العربية السعودية ونحن في خير وأمن وإيمان وحكم بالشرع وهذا من التحدث بنعمة الله لقوله تعالى:] واذكروا نعمة الله عليكم [ () وقوله تعالى:] وأما بنعمة ربك فحدث [ () وهذه النعمة العظيمة نعيشها الآن بعد أن أصبحت هذه الجزيرة مضرب المثل في توحيد الله والبعد عن البدع والخرافات، وأسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب والحمد لله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

المؤلف: ناصر بن محمد الهماش آل عاصم

١٢/٣/١٤١٩هـ

هاتف: (٠١٤١١٧٩٤٠)

صندوق بريد: ١٠٥٦٤٣ الرياض

الرمز البريدي: ١١٦٥٦

((كلمة العالم الجليل مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء الشيخ/ عبد العزيز بن باز في الملك عبد العزيز))

"الملك عبد العزيز نفع الله به المسلمين وجمع الله به الكلمة ورفع به مقام الحق ونصر به دينه وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحصل به من الخير العظيم والنعم الكثيرة ما لا يحصيه إلا الله عزوجل ثم أبناؤه بعده حتى صارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والبعد عن البدع والخرافات وهذه الدولة السعودية دولة مباركة وولاتها حريصون على إقامة الحق وإقامة العدل ونصر، المظلوم وردع الظالم واستتباب الأمن، وحفظ أموال الناس وأعراضهم فالواجب التعاون مع ولاة الأمور في إظهار الحق وقمع الباطل والقضاء عليه حتى يحصل الخير" () .

كانت الجزيرة العربية قبل قدوم الملك عبد العزيز لها تفتقد الحكم بالشريعة، فكانت القبائل تطبق قوانين تعارف عليها أهل كل قبيلة وكان أشرافهم يتمتعون بالسلطة المطلقة فالاعتداء والغارة على القبائل المجاورة وسلب أموالهم وقتلهم لا يعتبر إجراماً بل يعتبر نوعاً من البطولة ومفخرة قومية يتحدث بها الركبان والشعراء حتى هيأ الله لها الملك عبد العزيز الذي أرسل لهذه القبائل المندوبين يحذرونهم من خطورة هذا الأمر ويدعونهم للسلام والأخوة وذكروهم بقول الله تعالى:] واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا [ () وبقوله تعالى:] ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم [ () ، ثم خاطبهم بالتي هي أحسن وجادلهم بالكلام الطيب ومع ذلك بدءوه بحروب شرسة انتهت بانتصار هذا الملك العادل لأنه يدعو للتوحيد بأقواله وأفعاله وهدفه إسعادهم لأنه يفرحه ما يفرحهم ويحزنه ما يحزنهم وصدق الله القائل:] فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [ () وكما قيل: جولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، ثم بعد ذلك أسس كياناً شامخاً متميزاً متمسكاً بتعاليم الشريعة السمحة وأعاد مجد الإسلام، وساس الناس بكتاب الله وسنة رسوله r، وأصبح الناس إخواناً متحابين كما قال الله تعالى:] واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ () ثم طبق الملك عبد العزيز الشرعية وأقام سيف العدالة وحرس طرق الناس فهدأ الناس وأصبحت الجزيرة العربية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً يسير السائر فيها لا يخاف إلا الله مطمئناً ويحمل المال لا أحد يعتدي عليه لأن السارق والمجرم يعرف أن هناك سيفاً مسلولاً بجانب المصحف إذا اعتدى بتره السيف كما قال الله تعالى:] ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب [ () حياة وسعادة ورغد وأمن لأن الشريعة تجعل الإنسان يعيش رخاء يقول عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أي أن الله يردع بالسلطان ما لايردع بالقرآن، وصدق الشاعر أبوتمام عندما قال:

السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحدبين الجد واللعب

لأن بعض الناس لا يرتدع بالقرآن لأن المجرم لو قرأت عليه القرآن فهو مجرم ولكن إذا وجد أميراً وسيفاً ارتدع وخاف غيره فالسلطان ظل الله في الأرض من أهانه أهانه الله، ولهذا فإن الحاكم لابد أن يكون قوياً وقصة أبي ذر مشهورة جاء إلى النبي r وقال يا رسول الله! وليت فلاناً وفلاناً وتركتني ظن أبوذر -رضي الله عنه- أن الرسول r يولي الولاة بسبب حبه لهم فقال الرسول r: ((يا أباذر إنك ضعيف)) () والرسول r ولى رجالاً لأنهم أجدر بالأمر وأقوى في تنفيذ الأوامر وأحسن سياسة، وفي يوم من الأيام كان الملك "عبد العزيز" يسير في الصحراء ومعه موكب من حاشيته يتفقد أحوال البادية فشاهد امرأة ومعها قطيع من الغنم فأسرع إليها وسلم فردت السلام فقال لها الملك "تقومين برعي الغنم وحدك ما تخافين من أحد؟ " () فقالت المرأة ما أخاف وأخو نوره موجود فقال الملك من أخو نوره؟ فردت المرأة أخو نوره الملك "عبد العزيز" ففرح الملك واستبشر لأن البدو وهم في الصحراء في أمن ثم أعطاها الملك حفنة بيده من الجنيهات تغنيها وأهلها عشرات السنين، ولكن انظر إلى دول العالم تعيش حوادث السرقة والسطو والقتل ولعل حادثة انقطاع النور المشهورة عام (١٩٧٧م) عن مدينة نيويورك حيث اكتشف الناس في الصباح أن آلاف المحلات التجارية والمنازل قد نهبت عن آخرها () ونحن ولله الحمد نعيش في أمن واستقرار فالواجب علينا المحافظة على هذا الأمن ولا يكون هذا إلا بالسمع والطاعة لولاة الأمر والتعاون معهم لأن الأمة الإسلامية إن لم تكن سامعة مطيعة اضطربت واختلت موازينها ويجب أن نحارب ونردع ونكشف كل من أراد العبث بهذا الأمن ونضع أيدينا مع ولاة الأمر الذين تحملوا المصاعب لخدمة الشريعة ونشر الأمن وفعل الخير والحذر كل الحذر أن نسيء لدولتنا التي أحسنت إلينا ولا نكون كما قال الشاعر:

أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني

وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني

لأن بعض الناس وللأسف يتنكرون لبلادهم وولاة أمرهم ويُسيئون الظن بهم وعميت أبصارهم عن النعم العظيمة التي يعيشونها في بلادهم وسبب ذلك تأثرهم بأفكار وافدة من جماعات متشددة وعندها غلو في دين الله.

إن طبيعة الملك عبد العزيز كانت تؤهله للزعامة عن جدارة واقتدار كان مهيباً قوياً -يرحمه الله- وكان عنده التوكل على الله في كل شيء وهذا هو الذي أبرز طاقات "الملك عبد العزيز" وأظهر مواهبه وكشف النقاب عن عظمته وعبقريته وهيبة "الملك عبد العزيز" نابعة من قوة نفسه قبل أن يكون مصدرها قوة جسده ولهذا كان يحاسب نفسه ويبكي خوفاً من الله ولهذا كان دائماً يرفع يديه إلى الله ويقول: "اللهم إن كنت أريد نصرة دينك فأمدني بعونك وسددني ووفقني وإلا فلا تسلطني على أحد من خلقك" () ويقول للناس قولوا: "آمين" فيقولون: "آمين" قال: هذا الدعاء لأن نيته صادقة، ولهذا وفقه -الله- فافتتح بذلك تاريخاً واستهل حضارة وأنشأ حكومة ورتب لها دواوين ونظم أصول القضاء وأسس دولته على الإيمان فالعدل والرحمة والفطنة صفات متمكنة فيه لأنه متمسك بها في أقواله وأفعاله ولهذا سجل لاسمه مجداً قوياً وأصبح أحد عظماء التأريخ وأصبح بين السياسيين في القمة وأحد مفاخر الإسلام ونية الملك عبد العزيز مشهورة أنها نية صدق هدفها الدين لا رياء فيه، وفيه قصة حقيقية سمعتها من أشخاص من جماعتي وهي أن محمد بن رشيد لما رأى قصر آل سعود بالرياض مهدوم وكان محمد بن رشيد عاقلاً حليماً صريحاً سأل محمد بن رشيد أحد حاشيته أترى هذا البيت يقوم ثانية فقال الرجل: لا، يا الأمير فقال: محمد بن رشيد والله يا بعد حيي إنه سيقوم وستسمع لبنة طينة لأن آل سعود يا بعد حيي نيتهم صادقة وبُهم دين صحيح () .

والقصة الثانية مشهورة وهي معركة السبلة التي فيها كرامة "للملك عبد العزيز" تدل على صدق نيته لأنه حذر الجيش الذي يريد قتاله وقال لهم: مالكم وللفتنة ولكن خصومه جمعوا الجيوش من كل مكان وجمع "الملك عبد العزيز" جيشه واستعان بالله وكانت المسافة بين الجيشين قريبة واحتمى خصمه بالمتاريس ولما قامت المعركة أخذ الخصوم يرشقون جيش "الملك عبد العزيز" بالبنادق وكان كثيراً من جماعتي الذين حضروا المعركة مع "الملك عبد العزيز" يحدثوننا ويقولون: والله ثم والله إن رصاص الخصم لا يصيب أحداً من جيش الملك عبد العزيز بل نراه يذهب من فوق الرؤوس ويطيش في السماء ورصاصنا نحن الذين مع "عبد العزيز" يقع في جموعهم ويفرقهم ويصيبهم بالذعر وعدم الثبات () قالوا: حتى إننا سمعنا "الملك عبد العزيز" يدعو ويقول: "اللهم لك الحمد من اعتمد عليك نصرته ومن حاربك خذلته ومن خاصمك أهنته ومن فوض الأمر إليك كفيته" () .

الملك عبد العزيز ظهرت عليه مخايل الفروسية في باكورة صباه () وتمرس على الخشونة والمصاعب وهو في البادية فلما تولى القيادة أصبح يتميز بقوة جسدية فائقة جريئاً على الموت لايخشى أي مقاتل مهما كانت قوته ولا أحد يتمنى منازلته في ميدان المعركة يملك ثقافة عسكرية تدل أنه بطل مغوار ينفع الجيش الذي هو فيه بإيمانه وشجاعته وذكائه وحماسه وتضحيته ويعزز الطمأنينه والثقة في صفوف جيشه ويعرف كيف يهجم في الوقت الملائم وكيف يحتال على خصمه وكيف يوهن عزمه ويعرف كيف يسير الجيوش فشاع في الدنيا صيته وشجاعته وعلا في التأريخ اسمه واقترن اسمه بالنصر حتى خاف وفزع الخصوم منه لأنه قائد عملاق فنان محارب مقدام نابغة في فنون الحرب والانتصار والدليل على ذلك أنه قمع أخطر الفتن في الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها وحطم كبرياء خصومه وكسب المعارك الحاسمة التي لا تحصى حتى من شجاعته النادرة إنه لا يجاري خصومه في السباب لأنه خير من يعلم بأن النخوة لا تتيح للفارس أن ينال من خصمه بغير الحسام والإقدام في الميدان وتلك مزية البطل الهمام تدل على سلامة الصدر من الحقد على الخصم بعد الفراغ من القتال وقصة أمير المجمعة عبد الله بن عسكر مشهورة لأنه مع ابن رشيد ومُعارض "للملك عبد العزيز" لما فتح الملك عبد العزيز بريدة وجاء ابن عسكر لمقابلة الملك عبد العزيز والسلام عليه والاعتذار منه فظن الناس أن الملك عبد العزيز سوف يرده ويبطش به ولكن الملك عبد العزيز رحب به وقال له: "وفاؤك لمبدئك من ابن رشيد زاد من قيمتك عندنا اذهب فأنت أمير على المجمعة" () إنها الشجاعة وكظم الغيظ والعفو عند المقدرة، فعل "الملك عبد العزيز" هذا الأمر لأنه يقرأ قول الله تعالى:] فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ () ومن شجاعة الملك عبد العزيز وجرأته لما طغت الدولة العثمانية "الترك" شمر عن ساعديه وهاجمهم بكل قوة في "الأحساء" وهم أكثر منه عدداً وعدة فهزمهم في عقر دارهم وكسر شوكتهم وأدخل الرعب في قلوبهم ونزع منهم ملك آبائه وأجداده، كما قال الشاعر "حويدي العاصمي" في قصيدته:

حول على حمر الطرابيش بحبال مثل الهبيل اللي من العقل خالي

أنا أشهد إنه يا رجاجيل رجال يلوي ولا تلوى عليه الحبالي

مهبول يا باغي من الحكم مثقال وعبد العزيز مساعفته الليالي () .

فقال الملك عبد العزيز مداعباً "حويدي" أنا معزي جعلتني مهبول، يا حويدي! فقال حويدي: والله يا طويل العمر ما يفعل شجاعتك إلا مهبول فضحك الملك عبد العزيز وأمر بإعطائه مالاً () .

والشاعر حويدي من قبيلة آل عاصم من قحطان وأمير قبيلة آل عاصم الزعيم والفارس والداهية فيصل بن حزام بن حشر الذي له أيادي بيضاء ومواقف مشرفة في عهد الملك عبد العزيز وهو من المقربين الذين يستشيرهم ويستأنس برأيهم الملك عبد العزيز.

كانت الحرب في الجزيرة العربية لا تعلن إلا بموافقة الملك عبد العزيز وهو الذي يرسم الخطط ويوجهها التوجيه الموفق الحسن وكانت القيادة العليا للجيش والانطلاق للقتال منوطة () "للملك عبد العزيز" نفسه لأنه قائد ملهم حذر يستقصي دائماً أحوال الخصم ولا يهجم إلا بعد التثبت من النصر والأمن من الكمين وكان يدرب جيشه على مقاسات الجوع والعطش وقطع الصحاري القاحلة حتى إذا اشتبك مع الخصم انقض عليه انقضاض الأسد على الفريسة وكان يوصي الجيش بعدم الاعتداء على أحد وأن هدفه نشر الدعوة إلى الله ونشر السلام بين القبائل واستقرار الأمن في ربوع الجزيرة ونبذ النزاع والقتال بين القبائل وكان في جيشه كوكبة من الأمراء من إخوانه وأبناء عمومته وأبناءه كل واحد منهم يقدم روحه قبل جسده فداء له حافون به عن يمينه وشماله ومن أمامه ومن خلفه وأما بقية جيشه فهم دائماً متأهبين للقتال والحرب بإشارته ويقدمون أنفسهم وأموالهم وسلاحهم ورواحلهم تحت أمره وعند طلبه ويرتكبون المخاطر في سبيل نصرته لأنه يعلمون أن "الملك عبد العزيز" وأسرته المباركة كشجرة طيبة المنبت ثابتة الأصول مباركة الثمار دائمة الإدرار.

وقال خير الدين الزركلي: "الملك عبد العزيز" استلم ملكاً ضائعاً فجمعه وبلاداً خربة فعمرها وشعباً جائعاً ففاض بين يديه الرزق فهو ليس رجلاً عظيماً فحسب ولكنه رجلاً مبارك فقد كان ما بينه وبين الله عامرا () "والملك عبد العزيز" أسس حكمه على تقوى من الله وهذه شهادة حق لا يجوز كتمانها كما قال الله تعالى:] ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ () .

كانت القبائل في الجزيرة لها قادة وهو شيخ القبيلة ويرجعون إليه في أمورهم وكل من قدم كرماً أو شجاعةً أو تسلط بالقوة رضوا به رئيساً () وصار هو قائد القبيلة ويكون هو صاحب النفوذ الأكبر وسلطته هي النافذة ويقضي بما يشاء ولا أحد يلزمه برأي ولا يذكره بحكم شرعي بل لا حل عنده إلا القوة والسيف وأمره مطاع وهو المصدق عند جميع القبيلة وكل من عصاه طرد من القبيلة ووصفه الجميع بأنه متمرد وعيروه بالانشقاق فتذمر الناس من هذا الظلم والحكم الجائر وسارعوا إلى "الملك عبد العزيز" ليخبروه بالأمر فأرسل الملك عبد العزيز أهل العلم والحكمة ليعلموهم الشريعة التي فيها المساواة وفيها العدل وذكروهم بالقرآن والسنة وسيرة الصحابة وأنه يجب عليهم الحكم بما أنزل الله كما قال الله تعالى:] وأن أحكم بينهم بما أنزل الله [ () وقوله تعالى:] أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون [ () وذكروهم بأن حكم الله هو أحسن الأحكام وبه صلاح الأمة وسعادتها، وبعد المداولة والنقاش اقتنع قادة القبائل وذهبت عنهم الكراهية والبغضاء التي كانت كامنة في صدورهم وذهب قادة القبائل إلى "الملك عبد العزيز" () يضعون أيديهم في يده فرحب بهم وجعل كل واحد منهم أمير على قبيلته وكل واحد منهم هو المسئول عن قبيلته واشترط عليهم الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ووصاهم بالعدل وإرضاء كل أهل القبيلة رجالاً ونساءً ووصاهم برحمتهم وعدم المشقة عليهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون وأرسل معهم قاضياً وإماماً يقيم لهم الصلاة جماعة ويبينون لهم حدود الله وأحكامه ويتفقدون أحوال الفقراء والمساكين ويتفقدون أمور البيع والشراء ونقص المكيال والميزان ومن ثم يرفعون ما أشكل إلى "الملك عبد العزيز" الذي هو الحاكم التنفيذي عليهم جميعاً وأمراء القبائل تابعين له () .

كان الملك عبد العزيز جواداً سخياً كثير الهبات وكان عطاؤه عطاء من يثق بالله ولا يخشى الفقر يكرم الضيوف والوفود ويستقبلهم ببشاشة ويتصدق بكثرة لأن الصدقة تدفع البلاء وكان سريع العطاء جزيله محباً لفعل الخيرات عفيف البطن والفرج يصل إليه المحتاج بيسر ويكلمه وقد أنشأ قصراً عظيماً يسمى "ثليم" () بالرياض فيه من الخدم الكثير ومن الأواني ما لا يعد ولا يحصى يتوافد الناس على هذا القصر من كل مكان يوضع الطعام من التمر في الصباح والغداء من الظهر إلى العصر والعشاء من العصر إلى العشاء من اللحم والرز ومن جاء أكل ثم ذهب على مدار السنة كلها صيفاً وشتاء والناس خلق كثير لا تسمع منهم إلا الدعاء للملك بثبات الملك وهناك قصة سمعناها من كبار السن المعاصرين "للملك عبد العزيز" "أنه لما فتح الأحساء وجد مالاً كثيراً فأمر خادمه شلهوبا أن يوزع المال على الجيش وتم توزيع المال ولكن شلهوبا استأذن الملك أن يُبقي بعض المال احتياطاً إذا دعت إليه الحاجة فغضب "الملك عبد العزيز" وقال وزعه كله لا يَبقى شيء أنا أريد ملك ما أريد تجارة: وتم توزيع ذلك المال كله ولم يُبقِ منه شيئاً" () وكان سريعاً في مساعدة المريض الضعيف واليتيم والشيخ الكبير وذي العيال الكثير والأرملة الوحيدة وكلما قربك منه وأعطاك من المال وطمعت فيه كلما ازدت منه هيبة.

كان الملك عبد العزيز كثير العفو حليماً رحيماً رقيق القلب نقي السريرة يحب أن يصفح عن خصومه ويحب أن يأتي الرجل إليه فيعتذر فإذا اعتذر بادره بالمغفرة لم ينتصر لنفسه إذا جاءه خصومه يعتذرون قابلهم بالبشاشة ويرحب بهم ويلاطفهم () ويمنحهم بره ومعروفة وكرمه ويصالح خصومه بعد أن هزمهم ويقربهم وينزلهم منازلهم من التقدير والاحترام وتوزيع الهدايا عليهم ويضع لهم مكانا في مجلسه فأصبح خصومه من أنصاره بسبب تسامحه وعفوه وربما عاهده خصمه ثم غدر به ومع ذلك يقابله بالعفو ونسيان الماضي بل إن الملك عبد العزيز ربما هزم بعض خصومه وأصابه بجروح وأصبح الخصم لا يستطيع الهرب فيأتيه "الملك عبد العزيز" ويزوره في خيمته ويسلم عليه ويأمر طبيبه الخاص أن يعالج خصمه وهذا لا يفعله إلا العظماء وصاحب القلب السليم.

والملك عبد العزيز ربما قبض على بعض خصومه ووقعوا في الأسر ومع ذلك يعفو عنهم ويكرمهم ويقربهم حتى يحبوه ويكونون من ضمن جيشه وجلسائه لأنه يتبع هدى الرسول r مع الأسرى وقصة ثمامة بن أثال سيد بني حنيفه لما () وقع في الأسر وربطوه بسارية من سواري المسجد خرج إليه النبي r فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد! إن تقتلني تقتل ذا دم وإن تُنعم تُنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتركه الرسول r وذهب وأوصى الصحابة بإكرامه وإعطاءه حليباً من ناقته وفي اليوم الثاني قال الرسول r أطلقوا ثمامة فأطلقوه فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ ودينك أحب الدين إليّ وبلدك أحب البلاد إليّ وهذا يدل على أن العفو والإحسان يزيل البغض ويثبت الحب، أما إذا غضب على بعض الخدم أو الحرس أو الرعية ثم أدبهم بما يراه فإنه سريع ما يرضى ويغمرهم بعطايا تنسيهم ما حصل لأنه في عتبه لطيفاً وفي لومه عفيفاً فهذا الرسول r: ((يوم حنين زاحمت ناقة أبورهم الغفاري ناقة رسول الله r فأوجعت الرسول r فقرع الرسول r قدم أبورهم بالسوط وقال له الرسول r تأخر عني أوجعتني وبعد قليل دعاه الرسول r وأعطاه ثمانين نعجة وقال له: هذه عوض عن الضربة)) () ، ((وهذا أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- لما ضرب رجلا بخطام لأنه دخل عليه بدون إذن وهو يوزع الصدقة وقد نهاهم عن الدخول فلما فرغ أبوبكر من تقسيم الصدقة من الإبل دعا بالرجل فأعطاه الخطام وقال: اقتص مني فقال عمر بن الخطاب: والله لا يقتص لا تجعلها سنة كلما أدبنا أحداً يقتص منا فقال أبوبكر: فماذا أفعل؟ قال عمر: أرضه فأعطاه أبوبكر راحلة وقطيفة وخمسة دنانير فأرضاه بها وذهب الرجل مسروراً بها)) () "وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما ضرب إياس بن سلمة بالدرة لأنه كان معترضاً في طريق ضيق وقال له عمر أبعد عن الطريق يا ابن سلمة ثم رآه عمر بعد الحول وقال له: هل تريد الحج يا ابن سلمة هذا العام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيده حتى دخل البيت وأعطاه ستمائة درهم وقال له: يا ابن سلمة اعلم أنها عن الضربة فقال إياس يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتنيها فقال عمر أنا والله نسيتها" () .

كان الملك عبد العزيز سياسياً من الطراز الأول مُدَبِّراً للأمور يحسن إقناع خصومه وقد مكنه دهاؤه وحكمته وتدبيره من انتشار ملكه وترسيخه وصموده أمام الشدائد واثقاً بالله لا يهن ولا يجزع لم يتزعزع ولم يضعف ولم يستسلم بل ولم يهدأ حتى تمكن من الوصول إلى مراده وهي السيادة وتوسيع نطاق ملكه، وكان ماهراً في إخفاء مقاصده لا يستفز جيرانه الأقوياء، ومن فراسته المشهورة أنه لما جاءه فيصل الدويش أمير فرسان مطير () البارزين يعاهده على الوفاء وعدم الغدر أمام جيش الملك عبد العزيز فلما ابتعد فيصل الدويش عن المعسكر صار يلتفت بكثرة إلى الخلف إلى جيش الملك عبد العزيز فقال الملك عبد العزيز للحاضرين من حاشيته: إن الدويش نكث العهد فقال الحضور وكيف عرفت ذلك أيها الملك فقال الملك عبد العزيز: التفت إلى معسكرنا لأن التفاته يريد معرفة عددنا وسلاحنا وقوتنا واستعدادنا وفعلاً ما أن وصل إلى معسكره إلا وقام بقتال الملك عبد العزيز ومع ذلك كان الملك عبد العزيز يبالغ كثيراً في إكرامه، وتأليف قلبه، وينزله منزلته وله النصيب الأوفر من الهدايا والاحترام والتقدير، "ومن دهاء الملك عبد العزيز أن إحدى القبائل بلغه عنها وتأكد أنها غدرت ونكثت بيعتها له ثم جهز جيشه وذهب إليها ليعيدها إلى السمع والطاعة وأخبروه حاشيته أن هذه القبيلة أكثر منه عدداً وعدة فاستشار أصحاب الرأي من جيشه فقال بعضهم نرجع فقال الملك عبد العزيز لا، لو علموا لطاردونا وقال بعضهم نقاتلهم فقال الملك لا لم يطمئن قلبي للقتال، فقال الملك عبد العزيز: الرأي اذهب يا فلان لشيخ القبيلة وقل له إن الملك عبد العزيز قادم يطلب الزواج من إحدى بناتك فإن تم فالحمد لله وإن لم يتم رجعنا من رحلة القنص إلى الرياض وذهب مندوب الملك عبد العزيز وأخبر شيخ القبيلة بطلب الملك عبد العزيز فوافق شيخ القبيلة وقال مرحباً به الزواج هذه الليلة وتم الزواج وصارت القبيلة وشيخها من أنصار الملك عبد العزيز بفضل الله ثم دهائه وحسن سياسته" () ، ومن فراسته أنه سأله أحد حاشيته عن أحد خصومه هل تحبه فقال الملك عبد العزيز أحبه وأبغضه فقال الحضور: كيف ذلك أيها الملك فقال الملك: "أحبه لأنه علمني صديقي من عدوي" () وكلام الملك عين العقل لأن الحروب والأزمات تعلمك الذي يقف معك ويذب عنك بيده ولسانه وتعلمك الذي لا يهمه الأمر كأنه لا يعنيه وهذا واضح أنه ضدك ولكنه متحفز ينتظر الفرصة ليغدر، والواجب أن نكون مع الدولة بقلوبنا وسلاحنا وأموالنا في الشدة والرخاء، ويروى أن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- قابل الشاعر الفرزدق في الطريق فسأله الحسن عن حال الناس في الشام هل هم معه أم ضده فقال الفرزدق: قلوبهم معك وسيوفهم عليك والنصر في السماء () .

أما نحن ولله الحمد فإن الشعب السعودي الوفي قلوبهم وسيوفهم وأرواحهم فداء لهذه الدولة المباركة دولة آل سعود العادلة.

الملك عبد العزيز اشتهر بأنه صارم () وحازم ربما يعزل بعض الولاة وهذا يسمى في العصور الحديثة بالسياسة العليا وهو يحب الصراحة ولا يعرف الرياء والمجاملة مع ولاته بل يقول للمحسن: أحسنت وللمسيء أسأت ولا يخاف في الله لومة لائم وهذه القوة ينتفع الناس بها وهو قادر بفطنته وهيبته وصفاء ذهنه على تقويم من يحيد عن الطريق ويجترئ على النظام ولا يستطيع أحد أن يخدعه ويكره التثاقل في العمل ويحب الإنجاز وربما غضب على الوالي من كبار الولاة وعزله لمصلحة رآها بعد أن اجتهد في أمره وهو يسير في هذا على نهج الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كثير المحاسبة لأمرائه على البلدان وعزل بعضهم حينما رأى المصلحة في ذلك وهم من كبار الصحابة مثلما عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة من غير عجز ولا خيانة ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك، ومثلما عزل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- وهو أشهر قادة الإسلام في زمانه وقال عمر: والله ما عزلت () خالد لخيانة ولكن الناس فتنوا به وأحببت أن يعلم الناس أن النصر من الله وقال له عمر: يا خالد والله إنك عليّ لكريم وإنك إليّ لحبيب () وقال خالد ابن الوليد -رضي الله عنه- في مرض وفاته لأبي الدرداء إن عمر ابن الخطاب كان يريد الله بكل ما فعل وكان يغلظ على غيري مثل غلظته عليّ ولا يبالي قريباً ولا لوم لائم في غير الله () ، وعزل عمر -رضي الله عنه- زياد بن أبي سفيان عن ولاية العراق وعزل عمر أبا هريرة عن البحرين وعزل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- القائد المشهور عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عن مصر، وكان الملك عبد العزيز يرسل الثقات من خاصته يتجولون في أسواق كل منطقة ويخبرون الناس أن من له مظلمة من أمير أو قاض أو شيخ قبيلة أو غيرهم فليتقدم إلينا وهذا من حرص الملك عبد العزيز على براءة ذمته () .

والملك عبد العزيز لا يخاف منه الضعيف بل يخافه من يُخوف الضعيف، وليس أقرب للملك عبد العزيز من أبنائه أحد ولقد ساوى الملك بين أبنائه وسائر المسلمين فبلغ بذلك مبلغ البطولة في هذه الصفة النادرة بين حكام الدول.

الملك عبد العزيز في بيته يعجز أهل التربية أن يعملوا كطريقته مع أهله وأولاده فالملك عبد العزيز في بيته أب رحيم اشتهر بالعطف على صغار أبنائه والمودة للكبار ويحب مداعبة الجميع وملاعبة الصغير ويجلسه على فخذه ويقبله ويمازحه يجتمع مع أبنائه يومياً ويكون سعيداً متهللاً عندما يراهم عن يمينه وشماله ومن أمامه متحلقين حوله ويكون فخوراً بأشباله الشجعان وكان يطوف على أقربائه من أرحامه وإخوانه وأخواته يصلهم ويبرهم () وهو مشهور بذلك ويتفقد زوجاته ويسأل عن حاجاتهن وكان مشهوراً بالعبادة والتهجد في بيته كثير الخيرات والعبادات يحب الخلوة في العبادة خاصة بالليل وسميرة القرآن الكريم وله أذكار في الصباح والمساء لا يتركها، كلها من القرآن والسنة على منهاج النبوة وكان يتفقد أبناءه في الصلاة ويتابعهم ويوزع عليهم المصاحف في صلاة الفجر ووضع لهم المؤدبين يعلمونهم القرآن والسنة والصدق والأدب ومكارم الأخلاق وإحياء السنن وإماتة البدع حتى الجواري والخدم كان يحرصهم على الدين والصلاح والأمانة ويرسل لهم من يعلمونهم العقيدة والتوحيد وقصار السور من القرآن ويعلمونهم السنة والسيرة النبوية، والملك عبد العزيز أدب أولاده فالصغير يحترم الكبير ولا يتقدم عليه ولا يجلس قبله ولا يمشي أمامه، والملك عبد العزيز علمهم حسن الجلوس إذا كان الرجل من آل سعود في مجلس يتقدم الكبير في صدر المجلس ويتأخر الصغير ولو كان ابن الملك لأنه حسب كبر السن وليس حسب قرب نسبه من الملك وهذا هو سبب تماسك الأسرة الحاكمة.

والملك عبد العزيز له أولاد كثير لأنه تزوج من النساء الكثير مستمد ذلك من كتاب الله تعالى القائل:] فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [ () .

وإحياء لسنة الرسول r القائل: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) () ثم هدف الملك عبد العزيز في تكثير الأولاد حتى يحملوا رسالة التوحيد والعقيدة ويحمونها من المخرفين وهدفه الحفاظ على ملكه من بعده الذي فيه عز الإسلام والمسلمين وهاهم ولله الحمد أولاده العظماء يسيرون على منهاج العقيدة الصافية وتحكيم الشرع وإثبات الأمن ونشر الخير والقضاء على الشر، وجعلوا هذه الدولة بفضل الله ثم جهودهم كالسفينة الصالحة المحملة بالخيرات، والكنوز وبها الاستقرار السياسي والاقتصادي وكل من أراد إغراقها أو نهبها وجد فيها حكم الله القرآن والسنة والسيف فعلم أنه لا يقدر على العبث فيها فخاف وارتدع وولى هارباً ولله الحمد.

الملك عبد العزيز يعلم أن الجزيرة العربية لها خصوصيتها ومكانتها فيها البيت الحرام والمسجد النبوي فجعل النظام لا يخرج من العقيدة الثابتة ولا عن الشريعة المقررة وجعل هذه المملكة العملاقة المحروسة نظامها الشرع لا يحيد عنه بل يتبع القرآن والسنة وأقوال وأفعال الصحابة الكرام وطبق قول الله تعالى:] الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر [ () وأسس نظام الشورى الإسلامي فيتشاور قبل البت في الأمر مع أهل العلم والمعرفة والخبرة والتخصص فيما يحتاج إلى التشاور أما نظام الانتخاب الحر فهو لا يصلح لأن دولته تمثل العالم الإسلام وفيها الحرمين الشريفين وفيها التعاليم الإسلامية قائمة وفيها الاستقرار والأمان والمسلمون فيها كلهم يعيشون أعزاء أحراراً يؤدون عبادة الله في الحرمين وكل المساجد بكل حرية، والسبب بعد الله لأن الشريعة الإسلامية هي نظامها وهويتها والإسلام هو نظامها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ولأن الشريعة فيها دستور متكامل ويكفيها القرآن والسنة ففيهما العدالة وفيهما نظام الحكم وكل شيء.

والملك عبد العزيز لما جاء للجزيرة طهرها من رجس الشرك والخبث والظلم حتى سادها الطهر والصفاء.

والملك عبد العزيز نظم أمور الدولة فجعل أولاده هم الخلفاء بعده لأن أولاده الملوك اشتهروا بالتدين والأمانة والقوة والغيرة على قضايا الأمة الإسلامية وحبهم لإقامة الشرع ودفع الظلم ولأن الملك عبد العزيز دائماً يرجع للقرآن الكريم والسنة النبوية فهذا نبي الله موسى -عليه الصلاة والسلام- قال:] واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري وأشركه في أمري [ () فقال له الله تعالى:] سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا [ () .

واستأنس الملك عبد العزيز بسنة الخلفاء الراشدين الذين أوصى النبي r بسنتهم من بعدهم وأبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أولهم وأفضلهم جعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خليفة من بعده فأثبت المسلمون إمامته وبايعوه ولم ينكروا ذلك ثم إن نور الدنيا وهم العلماء الكبار أهل الحل والعقد سارعوا بالبيعة بأن يكون ولاية العهد لأبناء الملك عبد العزيز امتثالاً لقول الله تعالى:] يا أيها اللذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ () .

والعلماء في هذه البلاد السعودية يسيرون على منهج الاعتدال منهج أهل السنة والجماعة عندهم رسوخ في العلم وحكمة وتعقل وثبات على الحق لا تهزهم الأفكار السياسية المتهورة الحزبية التي هدفها الوصول للحكم بأي وسيلة ولو كانت بالفتن والعلماء هنا ولله والحمد لا تجد فيهم الشعارات البراقة التي تحمل الغلو والاندفاع والتعدي على النظام باسم حرية الكلمة أو باسم الإصلاح أو باسم لجان وحقوق مزعومة كاذبة لها فحيح كالأفعى تسعى للكرسي وتحمل أفكاراً مُضلله واتجاهات منحرفة ثورية يلهثون خلف هذا الفكر ويروجون له وزين لهم الشيطان ذلك كما قال تعالى:

] فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [أما علماء التوحيد أهل العقيدة الصادقة والمنهج الواضح الصحيح فإنهم ولله الحمد يعلمون أن في رقابهم بيعة على السمع والطاعة في العسر واليسر ويرفعون أصواتهم في كل مكان ويذكرون حدثاء الأسنان من الشباب بقول الرسول r: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) () ،رواه الشيخان وقوله r: ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) () رواه مسلم، وقوله r: ((من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن يعصي الأمير فقد عصاني)) () رواه مسلم، وقوله r: ((وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة)) () رواه مسلم، والعلماء الكبار ولله الحمد يناصحون الحكام بأدب واحترام وإنزال الملوك منزلتهم هدفهم النصيحة ليس هدفهم الاستفزاز بل هدفهم التعاون معهم على الخير ونصيحتهم على منهج أهل السنة والجماعة وهي قول الرسول r: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك وإلا كان أدى الذي عليه)) () رواه أحمد، والحاكم، والبيهقي، وابن أبي عاصم، نعم إن الرسول r ما ترك خيراً إلا دلنا عليه ولا شراً إلا حذرنا منه، والنصيحة تكون بالمكاتبة والمهاتفة سراً لا يعلمها إلا الله لأن المؤمن ينصح ويستر والمنافق ينصح ويفضح هدفه الشهرة والجمهور، وصدق الإمام الشافعي كما يروي عنه أنه قال:

تعمدني النصيحة في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة

فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه

فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة ()

وقول الشاعر الحطيئة () :

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم

من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

أما من خالف أهل السنة والجماعة وأصر على البلبلة والتشهير والفوضى والتهييج والإثارة وشحن الشباب المتحمس ليجعلونهم جيلاً فوضوياً متهوراً يسعون مع كل راية عمياء ويسمعون لكل صوت ناعق ولو كان لنار الفتنة ويحرضونهم على عدم السمع والطاعة لولاة أمرهم ويحثونهم على استنقاص ولاة الأمر في المجالس والمنابر فلا شك ولا ريب أن هذا الفكر يسبب الثورات والفتن ويهدم ولا يبني: "لأن زمن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لما أنكر الناس عليه جهرة تمت الفتنة والقتال وقتل جمع كثير من الصحابة وقتل عثمان -رضي الله عنه- بسبب الإنكار العلني" () ولهذا يقول الرسول r: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق كلمتكم فاقتلوه)) () رواه مسلم، لأن الذي يسعى لتغيير الأمور بالعنف والشدة والاغتيالات والتفجير وإحراق المحلات وتكفير المسلمين بالمعاصي وهم لم يستحلوها يعتبر على منهج الخوارج ومنهج التكفير والرسول r أوصى بقتل الخوارج وقال عنهم: ((إنهم يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون فيه لأن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) () .

ولهذا قال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل -رحمه الله-: (من خرج على إمام من أئمة المسلمين فقد شق عصى المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله r ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه فمن فعل ذلك فهو مبتدع) () .

وقال الإمام النووي في شرحه لمسلم: (وأما الخروج على الأئمة وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين) () .

وقال مالك بن دينار: إنه جاء في بعض كتب الله: (أنا الله مالك الملك قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة) () .

وقال سماحة العالم الجليل مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن باز: (وعلى الدولة أن يحاسبوا من حاد عن الطريق حتى يستقيم وهذا من باب التعاون على البر والتقوى ولا يترك الحبل على الغارب فقد يتكلم ناس ينشرون الشر والفتن ويُفرقون بين الناس بغير حق ومن غلط ينبه على خطأه ويوجه إلى الخير فإذا عاند فللدولة أن تعمل معه من العلاج أو التأديب أو السجن ما يمنع العناد إذا عاند الحق وعاند الاستجابة وإذا منع أحد أو وقف أحد لأجل أنه أخطأ في بعض المسائل حتى يتأدب ويلتزم فهذا من حق ولاة الأمر) ، "شريط بيان عقيدة أهل السنة والجماعة وهو مسجل وموجود" ثم لو أن الحاكم اجتهد وأعطى أشخاص مالا لمصلحة رآها ومنع أشخاصا من المال لمصلحة، فالواجب السمع والطاعة لقول الرسول r: ((إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)) () رواه البخاري ومسلم، ومعنى أثرة أي الانفراد بالشيء من أمور الدنيا واختصاص الأمراء بالدنيا ومنع حقك وقال الرسول r: ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)) () رواه مسلم، وقول الرسول r: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإن من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية)) () رواه البخاري ومسلم، وقال سماحة الشيخ محمد الصالح العثيمين: "بيان الحق فرض كفاية لا يقتصر على أحد والحق لا يعلق بأشخاص لو علقنا الحق بأشخاص مات الحق بموته، الواجب أن تتعلق بالحق والناصح هو الذي يتكلم ليصلح الأوضاع لا ليغيرها والله لو قال لي ولي الأمر لا تخطب ولا تنصح ولا تتكلم ولا تدرس ولا تصلي بالجماعة ما عارضت بل أقول سمعا وطاعة فإذا رأى ولي الأمر أن يمنع أشرطة سماحة الشيخ بن باز أو ابن عثيمين أو فلانا لقلنا سمعاً وطاعة، الإمام أحمد بن حنبل يضربه المأمون، بالسياط ويُجر بالبغلة ويُضرب حتى يُغمى عليه ويقول لو أعلم أني لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان وكان يدعو المأمون بأمير المؤمنين والمأمون صاحب بدعة عظيمة يقول بخلق القرآن" () .

عاش الملك عبد العزيز في بلاد نجد التي كانت فيها البداوة متفشية () والعلم بالقراءة والكتابة قليل جداً وكانت الصعوبات جمة لإفهام الناس ولرجاحة عقله سايس الناس بحكمه وحرك عجلة التعليم بكل ما استطاع وحاول أن يبسطه للناس ليدخله في عقولهم لأن هدفه محاربة الجهل والجمود والأخذ بكل جديد من مستجدات العصر بشرط أن يكون مفيداً ولا يخالف الشرع ولا التقاليد العربية الأصيلة الموافقة للشرع الحنيف ولهذا قاد الملك نجاح التعليم بسرعة لم يتوقعه أحد لأنه يحمل تفاؤلا منقطع النظير وطموحا قوياً حتى أنه استطاع إقناع أهل البادية أن يسكنوا الهجر ويستفيدوا من خطبة الجمعة ومن القرب من أهل العلم الذي يوضحون لهم الدين ويحذرونهم من البدع والخرافات ويعلمونهم صفاء العبادة الخالصة لله وحرص الملك على إنشاء مدارس، وتعاقد مع مدرسين من بعض الدول العربية الإسلامية واهتم كثيراً بمن يحملون العقيدة الصافية لأن الملك أعظم العلم عنده هو الأمور الدينية قبل كل شيء لأنه يملك في قبله علماً قوياً في العقيدة يتدفق فهو لديه ثقافة إسلامية وملم بأمور الشرع ويسأل العلماء عما أشكل عليه ويسعى الملك إلى إدخال العلم الجديد الذي يفيد بلده مثل الهاتف والسيارات والراديو وطلب من كبار العلماء إيضاح حكم الشرع فيها بأنها حلال ومفيدة لهم ديناً ودنيا ولكن بعض الناس يجهلون حكم هذه الأشياء لقلة علمهم فلما أقنعهم العلماء بالأدلة والنصوص بأنها حلال اقتنعوا بعد سماع قول الله تعالى:] وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس [ () وقول الرسول الله r: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)) () أما الذي انبهر منه العالم هو ثقافة هذا الملك عند ما أمر بتأسيس جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية () التي خرجت أجيالا يحملون علوماً متفرقةً كالبحر استفادوا وأفادوا الناس ولا شك بأن من تخرج سوف يرد بعض الجميل لأبناء الملك الراحل ويلتفون حولهم ويدافعون عنهم ويقفون معهم في الشدائد ويذبون عنهم كل شبهة بسلاح العلم الذي سلمه لهم الملك الراحل وخاصة أن أبناء الجزيرة أهل وفاء ولا يجحدون المعروف، أما الملك الراحل فهنيئاً له بالأجر العظيم لأنه فتح الدنيا وقاد الجزيرة إلى النصر والعلم وقطف الثمر في حياته وإن شاء الله بعد وفاته لقوله تعالى:] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض [ () ولقول الرسول r: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) () وقوله r: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده)) () رواه مسلم، ثم أعطاه الله من الخير وهو أن الله أخرج له كنوز الأرض وهو البترول ثم سعى الملك بأن يطور دولته مع العالم فأدخل طائرات للاستفادة منها وقت الحاجة وليشهد العالم كله بأن دولته متحركة متطورة مع الزمن وليست جامدة وأن الدين الإسلامي الصحيح الخالي من الغلو لا يقف عقبة أبداً في وجه أي تقدم أو إصلاح لأن الدين الصحيح يشجع على كل قوة وعلم يرهب الأعداء ويقوي المؤمنين.

الملك عبد العزيز انتشر ملكه تدريجياً وشق طريقه بيقين الواثق بربه وأصبح قادراً على صد أي اعتداء ومطمئنا على مستقبل دولته وواثقاً بقدرته بعد الله واتسعت دولته وصار لها الكثير من الأنصار والمؤيدين وازدادت قوة ملكه وتجمع لديه السلاح والرجال المتمرسون في الحرب وصاروا يتسابقون إلى ورود المعارك والانغماس في نيران الحروب في سبيل دينهم وعقيدتهم وتحت أوامر مليكهم العادل عبد العزيز الذي عرفوه بأنه المجاهد الأول هدفه إعلاء كلمة الله وإخلاص العبادة لله وتنفيذ أحكام الشرع فدانت له البلدان حتى أصبحت دولته موضع اهتمام الأوساط الدولية والسياسة في العالم الخارجي: "حتى إن بريطانيا عملت معاهدة معه" () وقام الرئيس الأمريكي روزفلت بمقابلة الملك عبد العزيز في منطقة قناة السويس عام (١٣٦٤هـ) () ، وتشرف بزيارة الملك عبد العزيز لينظر إلى هذا الملك العبقري الذي بلغ ذكره الدنيا ويستفيد من عقليته الفذة لأن الملك عبد العزيز بلا منافس هو ملك المسلمين والعرب في عصره والملك عبد العزيز ناقش قضية فلسطين مع الرئيس الأمريكي روزفلت وقال له بكل صراحة ووضوح أن الحل للقضية هي عودة اليهود إلى أوطانهم الأصلية والخروج من أرض فلسطين وتطرق الملك عبد العزيز لما تعانيه سوريا ولبنان من وطأة الانتداب الفرنسي وما يعتقده من أحقيتهما بالاستقلال والتحرر "بل وعقد المؤتمر الإسلامي الشهير عام (١٣٤٤هـ) في مكة المكرمة" () من أجل قضية فلسطين التي هي همه الأول.

والملك عبد العزيز استفاد من وصية جده الأمير محمد بن سعود صاحب الدولة السعودية الأولى حيث قال الأمير محمد بن سعود -يرحمه الله تعالى- لأولاده "لا تفجروا الصخر"ومعناها لا تثيروا عليكم الدول القوية الساكتة عنكم بأعمال تُفجر غضبها عليكم كما يفجر اللغم الصخور الساكنة فيفتت شظاياها وتقتل من حولها، وهذه الوصية تعني ضرورة الامتناع عن استفزاز الجيران الأقوياء.

ولهذا فإن الملك عبد العزيز سار على هذه السياسة الشرعية ووافق على العلاقات السياسية والاقتصادية الأجنبية وغيرها لأن الشرع يقر ذلك والمرجع كتاب الله وسنة الرسول r ثم سؤال أهل العلم من كبار العلماء ولهذا قال الله تعالى:] وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله [ () وقول الله تعالى:] والصلح خير [ () والرسول r أخرجه كفار قريش وأخذت أموال المهاجرين ومنازلهم ومع ذلك صالح النبي r كفار قريش يوم الحديبية سنة ست من الهجرة مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي r لأن الصلح هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم وهو أولى من القتال مع الكفار إذا كان الكفار هم أقوى من المسلمين بالقوة الحسية والله عزوجل يقول:] فاتقوا الله ما استطعتم [ () وقد تكلم ابن القيم في هذا في كتابه "أحكام الذمة" (وصالح النبي r اليهود في المدينة قبل الخندق وفي غزوة خيبر ومع نصارى الروم في غزوة تبوك حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وانتشر الإسلام والسلام وكان الرخاء والازدهار وسلامه النفوس وهذا الأمر معلوم في التأريخ لمن أنصف نفسه وبريء من العصبية والمراء) () ، ومن حق ولي أمر المسلمين شرعاً اتخاذ "كل وسيلة تصد الخطر وتوقف زحف الشر لبلاده وتؤمن للناس سلامة دينهم وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وتحفظ لهم ما ينعمون به من أمن واستقرار"، وقال سماحة العالم الجليل مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن باز: "إن الهدنة مع اليهود جائزة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك حتى يعيش الجميع في أمن وعافية ولا يلزم من المصالحة وجود المحبة والمودة لأن الرسول r صالحهم ولم يحبهم صالح كفار قريش عشر سنين وهم أشد كفرا من اليهود وكتب بينه وبينهم عهوداً حتى تسير البلاد بأمان والمصالحة لا حرج لحفظ الأمن والتعاون على ما ينفع الجميع حتى يخرج الناس لحاجاتهم بأمان ولمدارسهم بأمان، لقوله تعالى:] وإن جنحوا للسلم فاجنح لها [ () يعني سر إلى السلم ما قال لا تجنح لها لما فيه من المصلحة حتى تأتي القوة على الجهاد فالمصالحة مع اليهود أو مع النصارى أو الشيوعيين إذا رأى ولي الأمر المصلحة لشعبه حتى يعيش شعبه آمنا من القتل فهذه مصلحة ويجوز البيع والشراء معهم والسفراء بينهم ويعاملهم معاملة المصالحين" () وقال الشيخ ابن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء في أحداث منطقة الخليج لصد عدوان العراق قال سماحته: "ولا شك أن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم وحمايتها من كيد الأعداء أمر جائز شرعاً بل واجب متحتم عند الضرورة إلى ذلك لما في ذلك من إعانة المسلمين وحمايتهم من كيد أعدائهم وصد العدوان المتوقع عنهم وقد استعان النبي r بدروع استعارها من صفوان بن أمية يوم حنين وكان كافراً لم يسلم ذلك الوقت وكانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي r في غزوة الفتح ضد كفار أهل مكة" () .

ومن نظر إلى سيرة رسولنا محمد -عليه الصلاة والسلام- لوجد أنه زار بعض اليهود وأكل من طعامهم وهدفه -عليه الصلاة والسلام- تأليف قلوبهم للإسلام واستدان من يهودي بعض الطعام ووضع درعه مرهونا عند اليهودي حتى يقضي دينه ولم هُزمت قريش في غزوة بدر ووقع أسراهم في يد الرسول r قال الرسول r: ((لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء لأطلقتهم له)) ، والمطعم كافر لكنه قام بنصر الرسول -عليه الصلاة والسلام- وجعله في جواره وقال يا معشر قريش إني قد أجرتُ محمداً () ولم ينس الرسول معروفة وأكد أنه سوف يقبل شفاعته، واشترى الرسول من اليهود والمشركين ليبين لأمته الجواز وراسل الرسول r أهل نجران، وقال في الكتاب -عليه الصلاة والسلام- "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمه محمد r على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم" () ، وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في معاهدته لأهل فلسطين حيث قال في معاهدته لهم: "هذا ما أعطى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم" () وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية لما غزا التتار بلاد الإسلام ووقع كثير من المسلمين والنصارى في أسرهم ثم عادت العزة للمسلمين ودان ملوكهم بالإسلام خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية أمير التتار بإطلاق سراح الأسرى من السجن فوافق الأمير وفك أسرى المسلمين وأبى أن يفك الأسرى من أهل الذمة من النصارى فقال شيخ الإسلام لابد أيها الأمير من فك الأسرى من النصارى واليهود لأنهم أهل ذمتنا وبيننا وبينهم عهد فوافق الأمير فأطلق سراحهم جميعاً" () ، لأن العلماء أصحاب الحكمة يفهمون الدين ويفهمون قول الله تعالى:] وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم [ () وقوله تعالى:] ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن [ () ، وولي أمر المسلمين إذا عمل معاهدة وميثاق مع بعض الدول الكافرة ودخلوا البلاد الإسلامية بعقد وأمان من أولياء الأمور للعمل أو الزيارة أو البيع والشراء أو إقامة مؤقته فالواجب على كل مسلم ألا يغدر بهم ولا يؤذيهم ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة وإظهار محاسن الإسلام لهم ولهذا قال الرسول r: ((من قتل مُعَاهداً لم يَرِح رائحة الجنة)) رواه البخاري، وانظر إلى قصة موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- يأمرهما الله بدعوة فرعون برفق ولين قال الله تعالى:] اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى [ () وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره، والرسول r ينزل الناس منازلهم فهذه رسالته إلى ملك الروم قال فيها" من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم" () .

ورسالته إلى ملك الفرس "من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس" ورسالته الثالثة: "من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط" () لأن مخاطبة الناس ولو كانوا كفاراً بالحسنى وإنزالهم منازلهم لها التأثير النفسي عليهم كما قال الله تعالى:] ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن [، ولما قدم وفد مزينه على رسول r وهم أربعمائة رجل قال الرسول الله r لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ((يا عمر انطلق وزود القوم)) () فأدخلهم عمر وزودهم بالتمر وأخذ القوم منه حاجتهم.

وقد أعطى النبي r بعض الناس يوم حنين ولم يعط الأنصار فغضب الأنصار وقال قائل منهم إن النبي وجد قومه فقربهم وتركنا فأخبر سعد بن عباده -رضي الله عنه- وهو كبير الأنصار أخبر الرسول بهذا الكلام فقال له النبي r: ((أين أنت عنهم)) () فقال سعد: إنما أنا رجل من قومي فقام النبي فخطب فيهم خطبته الشهيرة وقال: "يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله إلى رحالكم" حتى بكوا ورضوا بكلامه -عليه الصلاة والسلام- وهذا مالك بن عوف حارب الرسول r ولما أسلم أنعم عليه الرسول وأعطاه مالا وجعله أميراً على من أسلم من قومه وهذا عدي بن حاتم الطائي كان نصرانيا ودخل على الرسول r في المسجد وأعلن إسلامه وأخذه الرسول r إلى بيته وأكرمه وتناول وسادة فقدمها له وقال: اجلس على هذه، فقال عدي: بل أنت فاجلس عليها فقال الرسول r: ((بل أنت اجلس فجلس عدي على الوسادة، وجلس رسول الله r بالأرض)) () وهذا وفد ثقيف لما أسلموا اشترطوا على الرسول r أنهم ليس عليهم صدقة ولا جهاد فقال الرسول r: ((سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا)) () والرسول r تألفهم وحلم عليهم حتى قوي إيمانهم ثم جاهدوا وتصدقوا بل إن وفد ثقيف قالوا للرسول r: ((أمِّر علينا رجلاً يؤمنا من قومنا)) فوافق الرسول r وجعل إمامهم منهم وهو عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام () .

الملك عبد العزيز بعلمه بالشرع يعطي السادة المطاعين في عشائرهم أو مجتمعاتهم من الزكاة والصدقات وبيت المال يتألفهم في ذلك ومن حق وصلاحية ولي أمر المسلمين إعطاء رؤوس العشائر وضعيفي الإيمان وإعطاء الكفار من الزكاة أو الصدقات وهذا معلوم بالشرع ولكن البعض يجهل ذلك لأن إعطاءهم من المال هدفه تأليف قلوبهم للإسلام أوكف شرهم عن المسلمين مما يعود على الإسلام والمسلمين بالمصلحة لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو القدوة لنا ألف قلوب الكفار بالعطاء من المال حتى أسلموا كما قال الله تعالى:] إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم [ () ، "وأعطى الرسول r أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلده، وسهيل بن عمرو، وجبير بن مطعم، ومالك بن عوف، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل" () ولما غضبت قريش والأنصار فقالوا يعطي صناديد نجد ويدعنا قال لهم النبي r: ((إني إنما فعلت ذلك لتأليفهم)) () ، وزماننا الآن بحاجة إلى تأليف بعض الحكومات الكافرة حتى تعتني بالمسلمين الموجودين عندهم وتحافظ عليهم وتعطيهم حقوقهم وحريتهم وتحترمهم ويكون لهم اعتبار عندهم وحتى تعلم الدول الكافرة أن الإسلام دين المحبة والمودة والرحمة والتعاون والتعاطف وأنه يعتني بالحقوق الإنسانية واحترامها وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المؤلفة قلوبهم نوعان: كافر ومسلم فالكافر إما أن يرجى بعطيته منفعة كإسلامه أو دفع مضرته إذا لم يندفع إلا بذلك والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضاً لحسن إسلامه أو إسلام نظيره أو كف ضرره عن المسلمين إذا لم ينكف إلا بذلك" () .

وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما رأى شيخاً ضريراً يهودياً يمد يده إلى الناس، ويطلب منهم المساعدة قال له عمر: ما ألجأك إلى ما أرى، قال اليهودي: فرضتم على الجزية وأنا كبير السن فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فأعطاه مالاً وأمر بإسقاط الجزية عنه وقال عمر: والله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم وأسقط الجزية عن كل يهودي كبير في السن" () .

وكان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يتألف عبد الله بن أبي ابن سلول وهو رأس المنافقين وهو من الذين رموا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بالفاحشة فبرأها الله تعالى ولم يقم عليه حد القذف وترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته، وتأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام لأنه كان مطاعاً فيهم رئيساً عليهم ولو أقام الحد عليه لصارت فتنة فتركه للمصلحة () .

الملك عبد العزيز أحب العلماء وقربهم وهذا هو دأب أسرة آل سعود الكريمة دائماً يناصرون علماء التوحيد فالإمام الأمير محمد بن سعود لما هاجر المصلح الكبير الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية بايعه الأمير محمد بن سعود على حماية دعوته، دعوة التوحيد ونشرها في كل البلدان وقال الأمير محمد بن سعود للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب: "أبشر بالخير والعز والمنعة" فرد عليه الشيخ قائلاً: "وأنت أبشر باليمن والغلبة على جميع بلاد نجد" () .

والعلماء بايعوا الملك عبد العزيز على السمع والطاعة لأنه بحق هو الملك الإمام القائم على حدود الشرع محيي أثار السلف والعلماء المنصفون يعرفون حقيقة ملكهم بأنه غيور على دين الله يبذل نفسه وماله وجهده ووقته في سبيل هذا الدين فوقف العلماء بكل إخلاص مع الملك وتعاونوا معه على الخير ووضعوا أيديهم في يده في السراء والضراء والعلماء وضحوا الشرع للناس والملك طبقة بين الناس وصار التعاون بين العالم والحاكم وهذه حقيقة لا يعرفها إلا العقلاء الذين يعرفون منهج أهل السنة والجماعة والعلماء الناصحون الصادقون يوضحون للملك كل فكر دخيل على البلاد يتصادم مع الدولة ويثير الخلاف ويهدف إلى مأرب، وأغراض خبيثة، والعلماء بددوا شبهات المغرضين، وكشفوا ضغائن قلوب الذين يريدون الإثارة والفتنة والتهييج والعنف فانكشف أمر المغرضين للصغير قبل الكبير ودخل الداعيين إلى الفتنة في جحورهم بفضل الله ثم العلماء كما قال الله تعالى:] بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق [ () .

"والملك عبد العزيز حريص على نشره كتب السلف والعناية بها وتدريسها" () ففي عام (١٣٦٣هـ) أشار الملك على سماحة الشيخ الجليل عبد العزيز بن باز أن يؤلف كتاب عن الحج للحجاج وقام الملك -قدس الله روحه- بطباعته على نفقته الخاصة () ، وحدثني سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز أن الملك عبد العزيز إذا جاء لقصره في الخرج كان يحضر درس الشيخ في الدلم بعض الأوقات الذي يقام بالمسجد والملك يستأنس بالجلوس مع العلماء وهو دمث الخلق معهم لين الجانب لهم، حتى أنه حدثني سماحة الوالد الشيخ العالم الجليل عبد العزيز بن باز أنه زار الملك عبد العزيز في قصره بالخرج فلما طلب الاستئذان من الملك عبد العزيز بالرجوع إلى بيته في الدلم قال الملك عبد العزيز مداعباً الشيخ بصوت مرتفع "ليه حاطني مثل وادي محسر من مر عليه أسرع لازم تنام عندنا هذه الليلة" فضحك سماحة الشيخ ووافق ونام تلك الليلة عند الملك عبد العزيز والعلماء الصادقون يعلمون أن الملك عبد العزيز حريص على احترام العلماء فكلمتهم مسموعة عنده وأمرهم وشفاعتهم مقبولة لديه هو دائماً يسترشد بعلمهم ويستفيد من فوائدهم والعلماء يشهدون أن الملك عبد العزيز مدافع ومستميت بالدفاع عن دينه وعن دولة التوحيد ولهذا صار بين الملك والعلماء تفاهم وبذل وعطاء فوقفوا معه في الشدائد والمحن وهذه حقيقة لا تستطيع أن تحجبها الأيدي الحاقدة الذي هم حمل وديع في الفتن والحروب ولا يحركون ساكناً ضد الأعداء بل إنهم إذا جاءت الشدائد ودارت الحروب بين دولة التوحيد وأعدائها قالوا نحن في حيرة أي محتارين سوف نفكر؟ ... وهل هناك تفكير بين دولة تحكم شرع الله وتدافع عن المقدسات ودولة خبيثة تحارب الدين والشريعة والمقدسات وأقل القليل أن تجاهد بلسانك أعداء دولتك وتذب عن دولتك بالخطب أما سكوتك فيدل أنك مع من غلب أو كما قال الشاعر في قصيدته:

إن العدو وإن أبدى بشاشته

إذا رأى منك يوماً فرصة وثبا

ومع ذلك أهل الفتنة بدون حياء يتهمون من وقف من العلماء مع دولة التوحيد وذب عنها ودافع عنها إتهمه الحاقدون بكل أوصاف سيئة هدفهم تنفير الناس منه ولكن السماء لا يضرها ما تطاير عليها من الغبار وصدق الشاعر عندما قال:

ومالي من ذنب إليهم علمته

سوى أنني قد قلت يا بلد أسلمي

ولكن ولله الحمد التلاحم بين الحاكم والمحكوم موجود وبينهم رباط وثيق، والعلماء درع للحاكم وحصن يقيه من كل فتنة لأن دولتهم وحكامهم "آل سعود" يدفعون عن شعبهم الأذى ويردون عنهم الردى ويطبقون بينهم شريعة الله التي فيها العدل والرحمة والسعادة والملك عبد العزيز دائماً لا يظن بالعلماء الصادقين الناصحين إلا خيراً وباب قصره العامر مفتوح لهم ليلاً ونهاراً لا يرد أحداً وفي أي ساعة وسار على هذا النهج أولاده الملوك إلى يومنا هذا، وجعل أولاده الملوك للعلماء مجلساً مستمراً يجتمعون مع العلماء ويتشاورون في أمور الشريعة والتوحيد ويستمعون لتوجيهاتهم وكل أمر يهم المسلمين أما بقية المواطنين فكل أمير منطقة يستقبلهم صباحاً فينظر إلى جميع حاجاتهم ويضعون الحلول الميسرة لهم وأبوابهم مفتوحة للضعيف قبل القوي وحقوقهم محفوظة لا تضيع عندهم بل هي همهم الأول، ومن أراد من المواطنين أن يقابل الملك أو ولي عهده فالأمر ميسر أن يقابلهما ويتحدث معهما بكل راحة، والعلماء الصادقون الناصحون دائماً عون لولاة أمرهم يدعون لهم بصدق بالتوفيق وثبات الشرع والملك والثناء عليهم على ما قدموه من خير للمسلمين ويذبون عنهم كل تهمة صادرة من حاقد حسود ويلتمسون لهم العذر على ما حصل منهم من خطأ بحسن نية أما ضعاف النفوس الذين يستغلون طيبة الملوك وحلمهم وسلامة صدورهم وحبهم للدين وأهل الخير فيستغلون هذا ويشوهون الحقائق ويغتابون الأمراء قصدهم الإثارة والفتنة والتشويش على الناس وأوجعوا دولة التوحيد بالأكاذيب وهم يعلمون جيداً أن الأمراء هنا هم حماة التوحيد ومع ذلك الأمراء يقابلون هذا الشيء بالحلم لأنهم يعلمون أنه حماس طائش كفقاقيع الصابون، والذي يقوم به هم من المتردية والنطيحة وأمرهم مكشوف ورائحتهم يشمها المجتمع جميعاً فمنهم من سلط لسانه في ولاة الأمر والعلماء الصادقين وسلم منه أعداء الإسلام ويحارب حماة العقيدة والتوحيد ولكن هذه الدولة السعودية ولله الحمد منصورة دائماً كلما سعى أشرار لفتنة فيها أخمدها الله وكشف سرها وهذا يدل على صدق نية الحكام في هذه البلاد ويدل على أصالتهم "فهم كالشجرة المثمرة يرميها السفهاء والصغار بالحجارة فتسقط عليهم الثمر" لأن حكامها ملاذاً كل يتمناهم والكل يتمنى هذه الدولة الآمنة المطمئنة ولا يريد أن يخرج منها لأن حكامها آل سعود يمتازون بالطيبة ويحبون الخير لكل الناس ويحاربون الشر لا يدنو إليهم الطامعون ولا يعبث عندهم المفسدون ومن قصدهم فاز بما يأمل محبون للخير وعليه حريصون وله باذلون.

وكبار العلماء في هذه البلاد المملكة العربية السعودية هم النجوم المضيئة للأمة الإسلامية وهم نجوم الحق وكواكب الهدى واشراقات القلوب، وزكى النفوس، وهم الصفوة الأولياء، والأزكياء أحياء الله بهم قلوباً ميتةً فكم من ضال هدوه بإذن الله وكم من تائه هدوه إلى سبيل الرشد وهم أصحاب القلوب الصافية.

الملك عبد العزيز مثل غيره من العظماء والملوك وأهل الجود والكرم كلن يتمنى القرب منهم ويطمع في كرمهم والملك عبد العزيز سمع الشعراء بشجاعته وإيمانه وسخائه فسارع الشعراء إلى ديوانه كالسيول المنحدرة لأن هذا الملك العبقري أهلاً للمدح ولا غرابة فالرسول r سمع الشعر من الشعراء وهو في المسجد وكان له شعراء وقال r: ((إن من الشعر حكمة)) () وكان -عليه الصلاة والسلام- يقول لحسان بن ثابت شاعره -رضي الله عنه- لما يقابل العدوا ماذا عندك يا حسان! فيقول حسان: عندي لسان لو وضعته على الحجر لخرقه ولو وضعته على الشعر لحلقه وكان الرسول r يقول لحسان بن ثابت: ((إن روح القدس معك ما هاجيتهم)) () يقصد المشركين ويقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((اهج قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق النبل)) () ويروي عن الرسول r أنه قال: ((الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحة كقبيح الكلام)) () وكلام العلماء والخطباء والشعراء له تأثير في قلوب الناس أيام الشدائد والحروب، ولا شك أن الدفاع عن دينك ودولتك وتخويف الخصم يكون بالجهاد باليد والمال واللسان والرسول r أمر بقتل كعب بن زهير لأنه آذاه بشعره وهجاه ثم جاء كعب بن زهير -رضي الله عنه- للنبي r تائباً معتذراً مسلماً ويقول الأمان يا رسول الله! فأعطاه الرسول r الأمان ثم قام كعب وترجل بقصيدة في مسجد النبي r بالمدينة وقال:

نبئت أن رسول الله أو عدني

والعفو عند رسول الله مأمول

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم

أذنب ولو كثرت في الأقاويل

إن الرسول لنور يستضاء به

مهند من سيوف الله مسلول ()

وبعد هذه القصيدة أعطاه الرسول r بردته هدية له، ويروي أن الرسول r قال: ((ذبوا بأموالكم عن أعراضكم قالوا: يا رسول الله! كيف نذب بأموالنا عن أعراضنا قال يُعطي الشاعر ومن تخافون لسانه)) () .

وقد فعل هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما غضب على الشاعر الحطيئة لهجائه الناس ونهاه عمر أن يهجو أحداً فضرع إليه الحطيئة وقال إذن أموت ويموت عيالي من الجوع فأنذره عمر ليقطعن لسانه ولكن الحاضرين شفعوا له بأنه لا يهجو أحدا ثم عطف عليه عمر واشترى منه أعراض المسلمين وأن يترك الهجاء بثلاثة آلاف درهم فسلم الناس من لسانه واستغنى عن الهجاء ما عاش عمر () ولكنه عاد إلى الهجاء بعد موت عمر ولما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة والملك وفد الشعراء إليه بدمشق فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم فدخل على عمر عدي ابن أرطاة فقال: يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة فقال عمر: ويحك يا عدي! مالي وللشعر فقال عدي: أعز الله أمير المؤمنين إن رسول الله r قد أمتدح فأعطى ولك في رسول الله r أسوة حسنة أعطى الرسول r العباس ابن مرداس السلمي حلة لما امتدحه فقطع بها لسانه لأن العباس ابن مرداس قال في قصيدته:

أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه وكان قديماً ركنه قد تهدما

فسمح عمر بن عبد العزيز للشاعر جرير بن عطية أن يلقي قصيدته فقال فيها:

إني لأرجو منك خيراً عاجلاً

والنفس مولعة بحب العاجل

هذي الأرامل قد قضيت حاجتها

فمن لحاجة هذا الأرمل الذَكَرِ

فأعطاه عمر من ماله مائة درهم.

وكان الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- يعطي الشعراء من المال فكتب إليه شقيقه الحسن بن علي -رضي الله عنهما- يعيب عليه إعطاء الشعراء المال "فقال الحسين: له إن أحسن المال ما وقى العرض" () وأعطى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- "المشهور بزين العابدين" أعطى الفرزدق الشاعر المشهور اثني عشر ألف درهم على قصيدته وسبب ذلك أن هشام بن عبد الملك بن مروان قبل أن يتولى الخلافة كان يطوف بالبيت فلما أراد أن يستلم الحجر الأسود لم يتمكن حتى نصب له منبر فاستلم الحجر وجلس على المنبر حتى يخف الناس من الزحام وأهل الشام حوله، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين فلما دنا من الحجر الأسود ليستلمه ويقبله تنحى عنه الناس إجلالاً له وهيبةً واحتراماً له حتى قبل الحجر واستلمه فقال أهل الشام لهشام بن عبد الملك: من هذا؟ فقال: لا أعرفه استنقاصاً به واحتقاراً، فقال الفرزدق: وكان حاضراً، أنا أعرفه فقال الناس: ومن هو؟ فأنشد الفرزدق يقول () :

هذ الذي تعرف البطحاءُ وطأتهُ

والبيتُ يعرفهُ والحلُ والحرمُ

هذا ابن خيرِ عبادِ اللهِ كلهمُ

هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلمُ

هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهلَهُ

بجده أنبياءُ الله قد ختموا

فليس قولكَ من هذا بضائرهِ

العرب تعرفُ من أنكرتَ والعجمُ.

**********

******

***

في شهر ربيع الأول عام (١٣٧٣هـ) توفي الملك عبد العزيز في الطائف ورحل عن الدنيا بعد أن زرع ذكري طيبة في قلوب الناس زرع التوحيد والعقيدة الصافية ورفع كرامة أمته الإسلامية وضحى من أجلها وتخلى عن مكاسب الدنيا وترك المطامع وتحمل الإيذاء من أجل دينه ثم شعبه ثم ملكه وبذل نفسه وماله ودمه في سبيل الحق وحده والعدل والكرامة ونذر نفسه لله لأنه يعيش لغيره ويحمل هموم دينه وشعبه وملكه وصلي على القائد الملك عبد العزيز في الحرم بمكة المكرمة ثم حمل على طائرة إلى الرياض وصلي عليه بمسجد العيد الكبير بالرياض () لأن الجامع الكبير لا يتسع للناس الذي ازدحموا واجتمعوا من كل مكان فضاق مصلى العيد بالناس وصلى الناس في الطرقات لأن الجمع كثير جداً لم يشهد مثله وكان يوماً مشهوداً واشتد الزحام وتضاعف الخلق كل دقيقة وضج الناس في المسجد بالبكاء والثناء والدعاء لملكهم وتبع الجنازة ما لا يُحصي عددهم إلا الله تعالى ودُفن في الرياض -رحمه الله تعالى- وتسابق العلماء وأهل الفضل والإيمان والعلم يبايعون أبناءه الملوك بالملك وتولي أمر الدولة لأن العلماء وأهل الحل والعقد لا يريدون إلا أبناء الملك عبد العزيز ولا يريدون سواهم لأن أبناء الملك عبد العزيز لا يبحثون عن الملك ولكن الملك يبحث عنهم ويحتاجهم أما الشعب كله الوفي المخلص المؤمن صاح صيحة واحدة وبعين دامعة ورفعوا أصواتهم "الملك لله ثم لآل سعود"، لأن أبناءه الملوك هم منابر ومصابيح الهدى وهم مفاتيحُ للخير مغاليقُ للشر وهم شموع تضيء لشعبهم الطريق وعدلهم يعم البلاد ويتساوي فيه الجميع وهم أمراء القلوب وأصحاب الأيادي البيضاء التي أعطت فغمرت وأعانت وأغنت الشعب عن البلاد الأخرى فكم من مريض ومحتاج ومديون فرجوا كربته وكم من مريض ومحتاج دعا لهم وهذا الذي جعل الناس يلتفون حولهم ويُحبونهم وكل يريد القرب منهم ويدافع عنهم ويُضحي بالنفس ليحموهم من الخطر الذي قد يعرض لهم ويدفعوا عنهم كل أذى ويذبوا عنهم الإساءة ويقفوا معهم في الشدائد ببسالة وتضحية، ودع الملك عبد العزيز هذه الدنيا وكانت مدة حكمه ثلاث وخمسين سنة وخمسة أشهر.

ودع الملك عبد العزيز الدنيا وترك لأولاده الملوك رايات نصر رفرفت عالية شهد بها العالم كله وترك لأولاده الملوك هيبة وشعوراً في نفوس الناس ومهد لهم الطريق وهاهم أبناء القائد الزعيم يُطبقون سيرته ويتألقون في كل المجالات، ويكونوا لشعبهم كالأرض الذلول يطأها الكبير والصغير وكالسحاب يظل البعيد والقريب وكالمطر يسقي من يحب ومن لا يحب وكالشمس تشرق على الجميع نسأل الله لهم المزيد من كل خير، اللهم اغفر للملك عبد العزيز وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله واغسله بالماء والثلج والبرد وقه فتنة القبر وعذاب القبر وأبدله داراً خيراً من داره وافسح له في قبره واجعله في سدرٍ مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب، وفرش مرفوعة، وأسأل الله تعالى أن يبارك في ذريته وأن يجعلهم خير خلف لخير سلف وأن يوفقهم لكل خير ويحفظهم من كل شر وأن يثبت ملكهم ويديم عزهم وأسأله تعالى أن من أراد بهم شراً أو تفريقاً أن يجعل كيده في نحره ويشتت شمله ويفسد عليه أمره ويهزمه اللهم لك الحمد وحدك وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المؤلف

ناصر بن محمد الهماش آل عاصم

١٢/٣/١٤١٩هـ. هاتف: (٠١٤١١٧٩٤٠)

صندوق بريد: ١٠٥٦٤٣ الرياض

الرمز البريدي: ١١٦٥٦

الصفحة الموضوع م

٢- ٤ ٥ ٦-٧ ٨-٩ ١١ ١٢ ١٢-١٣ ١٤ ١٥ ١٥-١٦ ١٧-١٨ ١٩-٢٠ ٢١-٢٢ ٢٣-٢٤ ٢٦ ٢٦-٢٧ ٢٠-٣٠ ٣١-٣٣ ٣٤-٣٨ ٣٩ ٤٠-٤١ ٤٢-٤٤ ٤٥-٤٦ المقدمة كلمة سماحة الشيخ ابن باز في الملك عبد العزيز الملك عبد العزيز والشريعة قصة المرأة البدوية مع الملك عبد العزيز زعامة الملك عبد العزيز ابن رشيد يثني على آل سعود كرامة الملك عبد العزيز في السبلة شجاعة الملك عبد العزيز أمير المجمعة ابن عسكر والملك عبد العزيز الملك عبد العزيز يهزم الترك في الأحساء الملك عبد العزيز وشؤون الجيش الملك عبد العزيز والقبائل الملك عبد العزيز جوده وسخاؤه الملك عبد العزيز عفوه وحلمه الملك عبد العزيز دهاؤه وفراسته فيصل الدويش والملك عبد العزيز الملك عبد العزيز ومحاسبة الولاة الملك عبد العزيز في بيته الملك عبد العزيز ونظام الحكم فتوى مهمة لسماحة الشيخ ابن باز في الدعاة فتوى مهمة لسماحة الشيخ ابن عثيمين في الدعاة الملك عبد العزيز وثقافته الملك عبد العزيز والسياسة الخارجية ١ ٢ ٣ ٤ ٥ ٦ ٧ ٨ ٩ ١٠ ١١ ١٢ ١٣ ١٤ ١٥

الصفحة الموضوع م

٤٧ ٤٨-٤٩ ٥٠-٥١ ٥٢ ٥٣ ٥٤ ٥٥ ٥٧ ٥٨ ٥٨-٥٩ ٦١ ٦٣ ٦٤ ٦٤-٦٦ ٦٦-٦٧ ٦٨-٧٠ ٧١-٧٢ جواز الصلح مع اليهود جواز الاستعانة بغير المسلمين المعاهدة مع الكفار إعطاء المشركين المال حلم الرسول صلى الله عليه وسلم الملك عبد العزيز والمؤلفة قلوبهم عمر بن الخطاب مع اليهودي الملك عبد العزيز والعلماء الملك عبد العزيز يطبع كتب العلماء العالم الجليل ابن باز يزور الملك عبد العزيز حماس الشباب الطائش الملك عبد العزيز والشعراء كعب بن زهير مع الرسول r جواز إعطاء الشعراء المال الفرزدق الشاعر الملك عبد العزيز يودع الدنيا الفهرس ١٦ ١٧ ١٨ ١٩ ٢٠


المصدر: موقع شبكة سحاب السلفية

<<  <   >  >>