(في ذكرى توليه مشيخة الأزهر: ١٣ جمادى الأولى ١٤٠٢هـ)
أحمد تمام
لم يقتصر دور الأزهر على الدرس والتعليم وتخريج العلماء، بل امتد أثره إلى الحياة العامة الرحيبة، فكان ملاذًا للناس حين يقع بهم ظلم أو جور، يأخذ على يد الظالمين ويعيد الحق للمظلومين. فحين قام "مراد بك" أحد كبار المماليك في العصر العثماني بالهجوم على بيوت بعض الناس في القاهرة ومصادرة ممتلكاتهم، لجأ الناس إلى الشيخ "أحمد الدردير" سنة (١٢٠٠ هـ = ١٧٨٥م) وكان من كبار علماء الأزهر، فقاد ثورة لاسترداد الحقوق المغتصبة، وما إن علم "إبراهيم بك"- وكان شريك مراد في حكم البلاد- حتى خشي من استفحال الثورة، فأرسل إلى الدردير يسترضيه ويعتذر إليه مما صنع زميله، ويخبره أنه ملتزم بردّ ما نهب أو دَفْع قيمته.
وبعد عشر سنوات من هذه الغضبة الأزهرية قاد "عبد الله الشرقاوي" شيخ الجامع الأزهر ثورة ثانية لاسترداد الحقوق، ودفع الظلم، ومقاومة الطغيان، حين دفع إليه مجموعة من فلاحي قرى مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية شكواهم من ظلم "محمد بك الألفي" ورجاله. ولم تهدأ هذه الثورة العارمة إلا بعد توقيع وثيقة تنص على عدم فرض ضريبة إلا بعد إقرارها من مندوبي الشعب، وألا تمتد يد ذي سلطان على فرد من أفراد الأمة إلا بالحق والشرعة.
وقاد الأزهر الثورة ضد الحملة الفرنسية، وتحمل تبعات الزعامة الوطنية وإذكاء الثورة، ولم تفلح المحاولات التي بذلها "نابليون بونابرت" لاستمالة رجال الأزهر بإضفاء كل مظاهر التبجيل والتقدير عليهم. وبعد جلاء الحملة الفرنسية كان لعلماء الأزهر يد لا تُغفل في تعيين "محمد علي" واليًا على مصر، في سابقة لم تحدث من قبل في التاريخ الإسلامي، حين تشترك الإرادة الشعبية وتأييد الخاصة وصفوة المجتمع في اختيار حاكم للبلاد.
واشترك الأزهر في الثورة العرابية، وحمل راية الجهاد في ثورة ١٩١٩ بمشايخه وطلابه الذين كانوا في مقدمة صفوف المجاهدين، وكانت ساحة الأزهر وأروقته مركزًا لتنظيم الثورة، وقد استشهد على أبواب الجامع الأزهر كثير من الثوار.
وكان شيوخ الجامع الأزهر هم حملة الأمانة وقادة التنوير وزعماء النهضة وملاذ الأمة وحصنها حين تضطرب الأمور ويدلهم الخطب، ويحتاج الناس إلى رائد لا يكذب قومه، يأخذ بيدهم إلى برّ النجاة، وكان الشيخ "جاد الحق على جاد الحق" واحدًا من حبات عقد الأزهر، الذي يُزيّن جِيد مصر أمانة وشجاعة وورعًا ومسؤولية، وقد تحمل تبعات الأزهر وقاده ببراعة في أجواء مضطربة تحيط بالأزهر، وسياسات تكبل أقدام الجامع العنيد، وقوانين تعوق مسيرته، ولم يكن الأزهر كما كان في القديم مؤسسة تتمتع بحرية الحركة، وتعتمد على أوقافها من الأراضي والعقارات تكفل لها الاستقلال بعيدًا عن الحكام والمتسلطين، ومن هنا كانت براعة الشيخ وتوفيق الله له في أن يحقق نتائج ملموسة في ظل السياسات المقيدة.