.. وعلى القول بأن الآية لا تشمل ميثاق عالم الذر يكون معنى الآية، قالوا بلى بلسان حالهم أي حالهم يدل على أنهم مربوبون مخلوقون لخالقهم الحي القيوم، هذا كقوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت ... ) فالجمال والسماء هذه لو لم تنطق وتقل الله خلقني والسماء تقول الله رفعني لو لم تقل هذا بلسانها بصوت نسمعه لكان حالها يدل على هذا، وكذلك الإنسان (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) فحالك يا إنسان يدل على الحي القيوم ولو لم تنطق وكل إنسان – مهما كفر وطغى وتجبر – حاله تشهد بذلك بأنه فقير إلى غني وأنه مخلوق لخالق ضعيف لقوي، ولذلك قال موسى لفرعون (لقد عملت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر..) أي أنت تعلم يا فرعون أني رسول من رب العالمين، وإن هذه الآيات والدلائل لم ينزلها ولم يعطني إياها إلا رب العالمين، فإذن شهادتك بحالك ثابتة لكن لسانك لم ينطق بهذا، وكذلك هو حال العالم كله يدل على أن الله خالقه وهذا بدلالة الحال لا بدلالة المقال، هذا كقول العربي:
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
فهنا (قال) بحاله فالحوض امتلأ ولم يعد يمسك ماءً وإذا صببت فيه نزل فحاله هذه كأنه يقول لك لا تصب في الماء.
إذن فحال المخلوقات بأسرها تدل على أنها فقيرة إلى ربها، ولا يوجد أحد من خلقه مستغن ٍ عنه:
الله قل وذر الوجود وما حوى ... إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
فالكل دون الله إن حققتهم ... عدم على التفصيل والإجمال
واعلم بأنك والعوالم كلها ... لولاه في محوٍ وفي اضمحلال
من لا وجود لذاته من ذاته ... فوجوده لولاه عين محال
والعارفون بربهم لم يشهدوا ... شيئاً سوى المتكبر المتعالي
ورأوا سواهم على الحقيقة هالكاً ... في الحال والماضي والاستقبال
فقوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) أي هالك في الحال والماضي والاستقبال، من مضى هلك ومن هو موجود سيهلك ومن سيأتي سيهلك.