للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

.. وإذا فرط الإنسان في بعض تلك المقامات، وقع الهلاك والآفات، ولذلك قرر سلفنا أهل العقول الزاكيات أن من عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد صديق، ومن عبده بالحب فقط فهو شقي زنديق، ومن عبده بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجئي (١) .


(١) هو قول مكحول الدمشقي كما في الإحياء: (٤/١٦٣) ، وكرر الإمام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – الاستشهاد بذلك الكلام، وترداده في كثير من كتبهما العظام انظر مجموع الفتاوى: (١٠/٨١، ٢٠٧، ١٥/٢١) ، وبدائع الفوائد: (٣/١١) ، وانظره في شرح الطحاوية: (٢٨٣) ، ومكحول الدمشقي تابعي من رجال مسلم والسنن الأربعة مات سنة بضع وعشرة ومائة – رحمه الله تعالى – كان إمام الشام في زمانه، وهو أفقه من الزهري، انظر هذا وغيره من ترجمته العطرة في تذكرة الحفاظ: (١/١٠٧-١٠٨) ، وطبقات ابن سعد: (٧/٤٥٣-٤٥٤) ، والبداية والنهاية: (٩/٣٠٥) وميزان الاعتدال: (٤/١٧٧) ، وتهذيب التهذيب: (١٠/٢٨٩-٢٩٣) ، وشذرات الذهب: (١/١٤٦) .

ومعنى قوله: من عبد الله بالحب فقط فهو زنديق، ما وضحه شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم الهمام – عليهما رحمة رب الأنام – وخلاصة ما في مجموع الفتاوى وبدائع الفوائد في الأمكنة المتقدمة: أن المحبة إذا لم تقرن بالخوف فإنها تضر صاحبها، لأنها توجب الإدلال والانبساط، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع جهله وحمقه، ويقول أنا محب، فلا أؤاخذ بما أفعله ويكون فيما يفعله عدوان وجهل وهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} المائدة١٨، والذين توسعوا في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق، واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم، قال الشيخ وتلميذه – عليهما رحمة الله تعالى –: وحدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة، فقال له: أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟ فقال له: بلى، فقال له: فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم، وهو إذا خرج ضاع قلبه، فحفظه لقلبه مسقط للجمعة في حقه، فقال له: هذا غرور، بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله، وحفظ قلبه مع الله، فتأمل كيف آل الأمر بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة، فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة، وسبب هذا عدم اقتران الخوف من الله – جل وعلا – بحبه، وذلك كان المشايخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية، وقد آل الأمر ببعضهم إلى استحلال المحرمات بدعوى أن المحب لا يضره ذنب.
قال مقيد هذه الكلمات – غفر الله له السيئات –: وقد عانيت في حداثة سنة من ظلال الصوفية ما عانيت، ولما لمت بعضهم في تقديس من هو متلبس بكل نقيصة وتارك لكل فريضة، أجابني بأن أصوله لهم عند الله مقام، والفرع منهم ولو مال، كما هو الحال في أغصان الأشجار، وخبرني جاهل ضال أن شيخهم المريد يقول لهم: لا تخافوا أولادي من النار، فإذا كان يوم القيامة وضعتكم في رقبتي كما توضع القلادة في عنق المرأة، وطرت فوق جهنم إلى الجنة، فقلت له، وإذا سقط الشيخ فماذا سيكون حالكم، وانظر لزاماً ما لبسه الشيطان على من ادعى محبة الرحمن، دون خشيته في السر والإعلان في كتاب تلبيس إبليس: (٣٤١-٣٥٠) فقد وصل الشطط ببعضهم أن قال يخوفنا الله بالنار، ما النار؟ لو رأيتها لأطفأتها بطرف مرقعتي، ولو بصق المحب على النار لأطفأها، سبحانك سبحانك هذا بهتان عظيم، وقائله شيطان رجيم، ويقصد بقوله: ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجئي: ما آل إليه غالبية المرجئة وزنادقتهم من أن النار لا يدخلها أحد من أهل التوحيد، ولا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا قول مخترع في دين الله – جل وعلا – لم يقل به أحد من السلف الكرام كما في مجموع الفتاوى: (٧/١٨١، ٥٠١) ، قال شيخنا محمد الحامد – عليه رحمة الله تعالى – ردود على أباطيل: (١١٨) وقال قائلهم – أي قائل غلاة المرجئة –:

متْ مُسلماً ومن الذنوب فلا تخف ... حاشا المهيمن أن يرى تنكيدا
لو رامَ أن يصليك نار جهنم ... ما كان ألهمَ قلبك التوحيدا

فمن تقلد تلك النحلة الخبيثة دعاه ذلك إلى التفريط في الواجبات، وإلى ارتكاب الموبقات تعويلاً على رجاء رب الأرض والسموات بسبب ما عنده من إيمان، حسبما يوسوس له الشيطان.
ويراد بقوله: ومن عبد الله بالخوف فقط فهو حروري: أن هذا مسلك الخوارج، فهم الحرورية، فالخوارج تلك الفرقة الضالة على أمير المؤمنين عليّ – رضي الله تعالى عنه – وكان خروجهم في قرية بظاهر الكوفة تسمى حوراء فنسبوا إليها، وفي صحيح مسلم – كتاب الحيض – باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة: (٤/٢٧) بشرح الإمام النووي عن معاذة أن امرأة سألت عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقالت: أتقضي إحدانا الصلاة أيام محيضها؟ فقالت عائشة – رضي الله تعالى عنها –: أحرورية أنت؟ قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم لا تؤمر بقضاء، قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى – قولها: أحرورية أنت؟ هو بفتح الحاء المهملة، وضم الراء الأولى، وهي نسبة إلى حوراء وهي قرية بقرب الكوفة، قال السمعاني: هو موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به، قال الهروي: تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها، فمعنى قول عائشة – رضي الله تعالى عنها –: أن طائفة من الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصلاة الفائتة في زمن الحيض وهو خلاف إجماع المسلمين، وهذا الاستفهام الذي استفهمته عائشة – رضي الله تعالى عنها – هو استفهام إنكار، أي: هذه طريقة الحرورية، وبئست الطرقة ١٠هـ.
وطريقة الخوارج الحرورية قائمة على التصديق بنصوص الوعيد دون الوعد فهي عكس طريقة غلاة المرجئة كما في مجموع الفتاوى: (٨/٢٧٠) ، وعليه فليس عبادة الحرورية رجاء، إنما هي خوف وعناء، وأهل السنة الأتقياء قامت عبادتهم لرب الأرض والسماء على المحبة والخوف والرجاء.
فائدة:
لفظ المقام الوارد في كلام الإمام ابن القيم – عليه رحمة ربنا الرحمن – خلاصة الأئمة في بيان حقيقته: أن الواردات التي ترد على القلوب في طاعة علام الغيوب لها أسماء باعتبار أحوالها فتكون لوامع وبوارق ولوائح عند أول ظهورها وبدورها، فإذا أحلت في القلب وباشرته كانت أحوالا، فإذا تمكنت منه، وثبتت له من غير انتقال، فهي مقامات، قالوا ردات لوامع وبوارق ولوائح في أولها، وأحوال في وسطها، ومقامات في نهاياتها، فتنوعت العبارات لتنوع الاعتبارات، انظر تفصيل ذلك في مدارج السالكين: (١/١٣٥-١٣٩) ، والرسالة القشيرية: (١/٢٠٤) والتعريفات: (٢٠٣) ، وعوارف المعارف على هامش الإحياء: (٤/٢٨١-٢٩٨) وإحياء علوم الدين: (٤/١٣٩) وأشار إلى المقامات والأحوال الشيخ ابن تيمية في أول التحفة العراقية ضمن مجموع الفتاوى: (١٠/٥)