للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والحديث الذي أشار إليه الغزالي من غلبة الغرور على آخر هذه الأمة رواه أهل السنن والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} المائدة١٠٥، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراُ، سألت عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من روائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم" قيل: يا رسول الله – أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: "لا، بل أجر خمسين رجلاً منكم (١)


(١) انظر الحديث الشريف في سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة المائدة –: (٨/٢٢٢) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، وسنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي –: (٤/٥١٢) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ": (٢/١٣٣٠-١٣٣١) ، والمستدرك – كتاب الرقاق: (٤/٣٢٢) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب فيمن بقي في حثالة كيف يفعل –: (٤٥٧-٤٥٨) ، وتفسير ابن جرير: (٧/٣) ، وأحكام القرآن للجصاص: (٢/٣٠) ، ومعالم التنزيل: (٢/١٠١) ، وحلية الأولياء: (٢/٣٠) ، وعزاه السيوطي في الدر: (٢/٣٣٩) إلى البغوي في معجمه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، والحديث حسنه الترمذي كما علمت ونقل ذلك عنه العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (٢/٣٠٤، ٣/٣٥٩) ، ولم يعترض عليه، وصححه الحاكم وأقره الذهبي كما تقدم ونقل السيوطي في الدر تصحيح الحاكم أيضاً ولم يعترض عليه.
والحديث الشريف بمعنى الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في المكان المتقدم، وابن ماجه في كتاب الفتن – باب التثبيت في الفتنة: (٢/١٣٠٧-١٣٠٨) ، والنسائي في السنن الكبرى كما في تهذيب السنن: (٦/١٩٠) ، وأحمد في المسند: (٢/١٦٢، ٢١٢، ٢٢٠، ٢٢١) ، وأسانيد المسند جميعها صحيحة كما في تعليق الشيخ شاكر على المسند: (١٠/١٢، ١١/١٩٤، ١٢/١٢، ١٩-٢٠) "٦٥٠٨، ٦٩٨٧، ٧٠٤٩، ٧٠٦٣"، وذكر في المكان الأول فوائد تتعلق في تحقيق نسبة رواية الحديث إلى عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – وأطال في ذلك ووسع الكلام بحيث استغرق سبع صفحات كاملة فارجع إليها إن شئت، والحديث رواه الحاكم في المستدرك – كتاب الفتن: (٤/٤٣٥-٥٢٥) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ولفظ الحديث عن عبد الله بن عمرو – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة، ويبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأمنياتهم، واختلفوا وكانوا هكذا " – وشبك بين أصابعه – قالوا: فكيف تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "تأخذون ما تعرفون، وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتدعون أمر عامتكم" قال سعيد بن منصور المكي أحد رواة الحديث: "حثالة الناس": رداءتهم، ومعنى قوله: "مرجت عهودهم": إذا لم يفوا بها ١٠هـ والحديث أشار إليه البخاري معلقاً في كتاب الصلاة – باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره –: (١/٥٦٥) بشرح ابن حجر، وقال الحافظ: وصله إبراهيم الحربي في غريب الحديث له ١٠هـ وأشار إليه البخاري أيضاً في ترجمة باب فقال في كتاب الفتن – باب إذا بقي في حثالة من الناس: (١٣/٣٨) بشرح ابن حجر والحديث رواه ابن حجر والحديث رواه ابن حبان – المكان المتقدم – والطبراني في الأوسط بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (٧/٢٨٣) – كتاب الفتن – باب في أيام الصبر وفيمن يتمسك بدينه في الفتن – عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس؟ " الحديث، واعلم أن ما ذكره الشيخ شاكر في المكان المشار إليه قريباً من أن حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – هذا لم يجده في شيء من الكتب الستة، وأن صاحب مجمع الزوائد لم يذكره ولذلك لا يستطيع الجزم بأنه في الكتب الستة ولا بأنه من الزائد، غفلة منه فقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد فاعلم.
قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له جميع العصيان –: يتعلق هذان الحديثان الشريفان بقطب الإسلام، وبما تدور عليه رحى الإيمان، ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآثام وفيه مباحث عظام سأتكلم على خمسة منها جسام حسب دلالة هذين الحديثين من أحاديث نبينا – عليه الصلاة والسلام –.
الأول:
من قدر على تغيير المنكر من غير وقوع أذى عليه من ضرب أو قتل فواجب عليه التغيير، وترك ذلك عصيان للرب الكبير، وموصل إلى عذاب السعير قال الإمام ابن عبد البر فيما نقله عنه الإمام القرطبي في تفسيره: (٤/٤٨) – عليهما رحمة الله تعالى –: أجمع المسلمون على أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره ١٠هـ وقال الإمام ابن العربي – عليه رحمة الله تعالى – في أحكام القرآن: (١/٢٦٦) : المسلم البالغ القادر يلزمه تغيير المنكر، والآيات في ذلك كثيرة، والأخبار متظاهرة، وهي فائدة الرسالة، وخلافة النبوة، وهي ولاية الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروط المتقدمة ١٠هـ وقال الإمام الغزالي – عليه رحمة الملك الباري – في الإحياء: (٢/٣٠٨) ، قد ظهر بالأدلة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به ١هـ.
قال عبد الرحيم الطحان – وهذا الأمر تدل عليه آيات القرآن، وأحاديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – وعليه كان مسلك سلفنا الكرام.
فمن الآيات قول رب الأرض والسموات في سورة الحجرات: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الحجرات٩، والآية الكريمة – كما ترى – نص صريح في وجوب إزالة المنكر باليد لمن قدر عليه حيث أمر الله – جل وعلا – بقتال المعتدين، ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر رب العالمين وترك ما هم عليه من البغي والظلم المبين، كما قرر ذلك الجصاص في أحكام القرآن الكريم: (٢/٣٢) .
ومن الأحاديث الصحيحة القوية قول خير البرية – صلى الله عليه وسلم –: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، أخرجه مسلم في كتاب الإيمان – باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان –: (١/٦٩) ، والترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب: (٦/٣٣٧) ، والنسائي – كتاب الإيمان وشرائعه – باب تفاضل أهل الإيمان –: (٨/٩٨) ، وابن ماجه – كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء في صلاة العيدين: (١/٤٠٦) ، وفي كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (٢/١٣٣٠) ، وأبو داود – كتاب الصلاة – باب الخطبة يوم العيد: (١/٦٧٧) ، وفي كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي: (٤/٥١١) ، وأحمد في المسند: (٣/١٠، ٢٠، ٤٩، ٥٢-٥٣) والجصاص في أحكام القرآن: (٢/٣٠) كلهم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه –.
وفي رواية للنسائي: "من رأى منكم منكراً فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان".
وثبت في صحيح مسلم في المكان المتقدم، وصدر الحديث في المسند: (١/٤٥٨-٤٦١) عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وكلمة "خلوف" بضم الخاء، وهي جمع خلف بإسكان اللام، وهو الخالف بشر، وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير هذا هو الأشهر، وقال جماعة من أهل اللغة: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوز الفتح في الشر، ولم يجوز الإسكان في الخير، كما في شرح الإمام النووي: (٢/٢٨) .
وقد كان سلفنا الكرام يقومون بهذا الأمر خير قيام ففي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام الخلال: (١٤٢) قال أبو بكر المروزي سألت أبا عبد الله – يعني الإمام المبجل أحمد بن حنبل – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – عن كسر الطنبور، قال: يكسر وقال عمر بن صالح: رأيت الإمام أحمد بن حنبل مر به عود مكشوف فقام فكسره، وقال عمر بن الحسين: كسر أحمد بن حنبل طنبوراً في يد غلام لأبي عبد الله نصر بن حمزة، فذهب الغلام إلى مولاه، فقال: كسر أحمد بن حنبل الطنبور، فقال له مولاه: فقلت له إنك غلامي؟ قال: لا، قال: فاذهب فأنت حر لوجه الله – عز وجل – وقال: وكيع بن الجراح (المتوفى سنة سبع وتسعين ومائة وهو إمام المسلمين في وقته كما قال الإمام أحمد عليهما رحمة الله تعالى – كما في تهذيب التهذيب: (١١/١٢٦) : خذ الطنبور فاكسره على رأس صاحبه كما فهل ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
ولا خلاف بين سلفنا الكرام في وجوب إزالة المنكرات والآثام على كل من قدر على ذلك من أهل الإسلام، ولا ضمان عليه على القول الحق المعتمد في شريعة الرحمن، ففي الدر المختار وحاشيته رد المحتار: (٦/٢١٢) ، قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى –: لا يصح بيع آلات اللهو، ولا يضمن متلفها قيمتها ولو كانت لكافر، وهذا هو المعتمد في المذهب الحنفي، وعليه الفتوى عندهم، وفي الاختيار: (٣/٦٥) لأنها أعدت للمعاصي فلا تضمن كالخمر، ومتلفها يتأول فيها النهي عن المنكر، وأنه مأمور به شرعاً فلا يضمن كأذن القاضي، بل وأولى ١هـ وفي المنهاج وشرحه السراح الوهاج: (٢٦٩-٢٧٠) ، (والأصنام وآلات الملاهي لا يجب في إبطالها شيء) لأنها محرمة الاستعمال (والأصح أنها لا تكسر الكسر الفاحش بل تفصل لتعود كما قبل التالف) ومقابله تكسر حتى تنتهي إلى حد لا يمكن اتخاذ آلة محرمة منه (فإن عجز المنكر عن رعاية هذا الحد لمنع صاحب المنكر) منه (أبطله كيف تيسر) إبطاله ويشترك في جواز إزالة هذا المنكر الرجل والمرأة، ولو أرقاء وفسقة ١هـ وهذا هو قول الإمام مالك – عليه رحمة الله تعالى – كما في الإفصاح: (٢/٣٣) ، وتقدم قول الإمام أحمد وفتياه فكن منها على بال يا صاحب الرشد والكمال، فهذه نصوص المذاهب الأربعة، في لزوم تغيير المنكر باليد لكل من رآه ذكراً كان أو أنثى، وأنه لا ضمان عليه في إتلاف المنكرات، وهو مأجور عند رب الأرض والسموات، وقد بوب الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باباً بهذا الخصوص فقال: باب الإنكار على زعم أنه عليه الغرم في كسر شيء من المنكرات: (١٤٥-١٤٦) ، وأورد ضمن ذلك الباب آثاراً شتى في تقرير ذلك منها أن أبا السفر سأل الإمام أحمد عن رجل رأى في يد رجل عوداً أو طنبوراً فكسره، أصاب أو أخطأ، وما عليه في كسره؟ فقال الإمام أحمد: قد أحسن، وليس عليه في كسره شيء، ومنها، قال وكيع: ليس للمعاصي قيمة، مثل الطنبور وشبهه.
وأورد الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب ما يجب على الرجل من تغيير المنكر إذا سمع وعلم مكانه ولم ير مكانه بعينيه، أو يراه في الطريق أن ينكره، آثاراً كثرة عن سلفنا الصالح في تغيير المنكر باليد لكل مكلف، من جملة ذلك فتيا الإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى – بأن من سمع الغناء من بيت فعليه أن يجمع عليه الجيران، ويهول عليه، ويشهر به ليرتدع من غيه، ونقل الخلال عن أحمد بن عبد الحميد الكوفي، قال: كان محمد بن مصعب إذا سمع صوت عود أو طنبور من دار أرسل إليهم: أن أرسلوا إليّ ذلك الخبيث، فإن أرسلوا به إليه كسره وإلا قعد على الباب يقرأ القرآن، فيجتمع الناس فيقولون: محمد بن مصعب، فلا يدع قراءته حتى يخرج إليه ذلك الخبيث فيكسره، ومر يوماً بدار فسمع صوت عود يضرب به، فقرع الباب، فنزلت جارية فقال لها: يا جارية، قولي لمولاتك تحدر العود حتى أكسره، فصعدت فقالت لمولاتها شيخ بالباب، قال كذا وكذا، قالت: هذا شيخ أحمق، فضربت بعودين فجلس محمد بن مصعب على الباب وقرأ، فاجتمع الخلق، وارتفعت الأصوات بالبكاء فسمعت المرأة الضجة، فقالت: يا مولاتي تعالي انزلي فاسمعي، فلما سمعت قالت: أحدري العودين حتى يكسرهما.
ومحمد بن مصعب توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين – عليه رحمة الله تعالى – وكان صالحاً قانتاً مجاب الدعوة، وكان يقول: يا رب من زعم أنك لا تتكلم، ولا ترى في الآخرة فهو كافر بوجهك لا يعرفك أشهد أنك فوق العرش فوق سبع سموات، ليس كما يقول أعداؤك الزنادقة، كما في تاريخ بغداد: (٣/٢٨٠) ، وطبقات الحنابلة: (١/٣٢١) .
وفي الإحياء: (٢/٣٢٠) إذا ظهرت أصوات المزامير والأوتار بحيث جاوز ذلك حيطان الدار فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي.
قال راقم هذه الحروف – حفظه الله من الفتن والحتوف –: وهذا الأمر – أعني تغيير المنكر باليد – ينبغي فهمه ووعيه وعياً جيداً فقد فرط بالعمل به المسلمون من قرون، وخلدوا للدعة والذلة والسكون، بل ضيعوا العلم به وانحرفوا عن الشرع الميمون، وتلك بلية كل بلية بجانبها تهون، والله المستعان على ما يصفون.
واعلم أخي طالب الحق المبين أنه لا تعارض بين ما تقدم تقريره بالبراهين وبين وظيفة الحسبة في الشرع القويم فالحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله كما في الأحكام السلطانية للماوردي: (٢٤٠) ، ومعالم القربة: (٥١) ، وذلك الأمر هو مقصود جميع الولايات الإسلامية كما في الحسبة: (٦) للشيخ ابن تيمية، والمحتسب هو المعين من قبل الحكومة الإسلامية للقيام بتلك المهمة العلية، والحسبة تصح من كل مسلم سواء كان محتسباً معينا لذلك أو متطوعاً في نشر شريعة الرب المالك، ومقاومة أهل المنكر وقمع المهالك، وقد ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية: (٢٤٠-٢٤١) تسعة فروق جوهرية للفرق بين المتكوع بالحسبة والمعين لها من قبل الحكومة الإسلامية، هاك خمسة من تلك الفروق الجلية:
الفرق الأول: فرض الحسبة متعين على المحتسب المتعين لها بحكم الولاية، وفرضها على غيره داخل في فروض الكفاية.
الفرق الثاني: قيام المعين للحسبة من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه، وقيام غيره بها من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه.
الفرق الثالث: يجب على المعين للحسبة أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل على إنكارها ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته وليس على غيره بحث ولا فحص.
الفرق الرابع: للمعين على الحسبة أن يعزز في المنكرات الظاهرة، وليس للمتطوع أن يعزز على منكر، بل يقتصر على إزالته فقط.
الفرق الخامس: يجوز للمعين على الحسبة أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز لغيره أن يرتزق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال الإمام الغزالي – عليه رحمة الملك الباري – في الإحياء: (٢/٣١١) اشتراط الإذن من جهة الإمام والوالي في الحسبة فاسد، فإن الآيات والأخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى منكراً فكست عليه عصى، إذ يجب عليه نهيه أينما رآه، وكيفما رآه على المعلوم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له، والعجب أن الروافض قالوا: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم، وهو الإمام الحق عندهم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلموا، بل جوابهم أن يقال لهم إذا جاؤوا على القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم: إن نصرتكم أمر بالمعروف، واستخراج حقوقكم من أيدي من ظلمكم نهي عن المنكر، وطلبكم لحقكم من جملة المعروف، وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق، لأن الإمام الحق بعد لم يخرج، فإن قيل: في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقاً، فينبغي أن لا يثبت لأحاد الرعية إلا بتفويض من الولي وصاحب الأمر، فنقول: إما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل، فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كفز التعليم والتعريف إذ لا خلاف في أن تعريف التحريم والإيجاب لمن هو جاهل، ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الولي، وفيه عز الإرشاد، وعلى المعرف ذل التجهيل، وذلك يكفي فيه مجرد الدين، وكذلك النهي، وشرح القول في هذا أن الحسبة لما خمس مراتب، أولها: التعريف، والثاني: الوعظ بالكلام اللطيف، والثالث: السب والتعنيف، ولست أعني بالسب الفحش، بل أن يقول: يا جاهل، يا أحمق، ألا تخاف الله، وما يجري هذا المجرى، والرابع: المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي، وإراقة الخمر واختطاف الثوب الحرير من لابسه، واستلاب الثوب المغصوب منه ورده على صاحبه، والخامس: التخويف والتهديد بالضرب ومباشرة الضرب له حتى يمنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف فإن سلب لسانه غير ممكن، ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب، وهذا قد يحوج إلى استعانة وجمع أعوان من الجانبين، ويجر ذلك إلى قتال.
وسائر المراتب لا تخفى وجه استغنائها عن إذن الإمام، إلا المرتبة الخامسة، فإن فيها نظراً سيأتي، أما التعريف والوعظ فكيف يحتاج إلى إذن الإمام، وأما التجهيل والتحميق والنسبة إلى الفسق وقلة الخوف من الله – عز وجل – وما يجري مجراه فهو كلام صدق، والصدق مستحق بل أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر، كما ورد في الحديث الشريف – تقدم تخريجه في كتاب الملل والنحل – فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته، فكيف يحتاج إلى إذنه، وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد، فلم يفتقر إلى الإمام وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر، واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض بل كل من أمر بمعروف فإن كان الوالي راضياً به فذاك، وإن كان ساخطاً له، فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه، ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة، ثم بعد أن سرد الغزالي عدة حوادث في ذلك قال: ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن ١٠هـ.
وقد وسع الإمام الجصاص القول في ذلك وأطال، وأتى بما يشرح صدور الأبرار، فقال في أحكام القرآن: (٢/٢٩-٣٤) ، ونعم ما قال: وفي هذه الأخبار دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان: حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته، ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله، وإزالته باليد تكون على وجوه منها: أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف، وإن يأتي على نفس فاعل المنكر، فعليه أن يفعل ذلك، كمن رأى رجلاً قصده أو قصد غيره بقتله، أو بأخذ ماله ن أو قصد الزنا بامرأة، أو نحو ذلك، وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح، فعليه أن يقتله، لقوله – صلى الله عليه وسلم –: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضاً عليه، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجز له الإقدام على قتله، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده، أو بالقول امتنع عليه، ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه، ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله، وذكر أبن رستم عن محمد بن الحسن – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – في رجل غصب متاع رجل، وسعك قتله حتى تستنفذ المتاع وترده إلى صاحبه، وكذلك قال أبو حنيفة – رحمه الله تعالى – في السارق إذا أخذ المتاع وسعك أن تتبعه حتى تقتله إن لم يرد المتاع، وقال محمد بن الحسن قال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت يسعك قتله، وقال في رجل يريد قلع سنك: لك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه، وهذا الذي ذكرناه يدل على قوله تعالى: "فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ" – عز وجل – وترك ما هم عليه من البغي والمنكر، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" يوجب ذلك أيضاً، لأنه قد أمر بتغييره بيده على أي وجه أمكن ذلك، فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله، ولذلك قلنا في أصحاب المكوس والضرائب التي يأخذونها من أمتعة الناس: إن دماءهم مباحة، وواجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له، ولا التقدم إليهم بالقول لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره، ومتى أنذرهم من يريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر فجائز قتل من كان منهم مقيماً على ذلك، وجائز مع ذلك تركهم لمن خاف إن أقدم عليهم بالقتل أن يقتل، إلا أن عليه اجتنابهم والغلظة عليهم بما أمكن وهجرانهم، وكذلك حكم سائر من كان مقيماً على شيء من المعاصي الموبقات مصراً عليها مجاهراً بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن، وتغيير ما هم عليه بيده، وإن لم يستطع فلينكره بلسانه، وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم أن يزولوا عنه ويتركوه، فإن لم يرج ذلك وغلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكر عليهم وسعه السكوت عنهم بعد أن يجانبهم، ويظهر هجرانهم، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "فليغيره بلسانه، فإن لم يستطع فليغيره بقلبه" وقوله – صلى الله عليه وسلم –: "فإن لن يستطع" قد فهم منه أنهم إذا لم يزولوا عن المنكر فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن، لأن قوله: "فإن لم يستطع" معناه أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال.
ثم قال الإمام الجصاص – عليه رحمة الله تعالى –: لما ثبت بما قدمنا ذكره من القرآن، والآثار الواردة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبينا أنه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيره، ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى السلام وقتال الفئة الباغية، مع ما سمعوا فيه من قول الله – تبارك وتعالى –: "فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ" وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره، وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور، وقتل النفس التي حرم الله، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول، أو باليد بغير سلاح، فصاروا شراً على الأمة من أعدائها المخالفين لها لأنهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية، وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس وأعداء الإسلام حتى ذهبت الثفور وشاع الظلم، وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا، وظهرت الزندقة والغلو، ومذاهب التنوية والخرمية والمزدكية، والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الإنكار على السلطان الجائر والله المستعان ١٠هـ.
الإمام الجصاص هو أبو بكر أحمد بن على الرازي الفقيه الحنفي انتهت الرحلة في زمنه إليه وكان على طريقة من تقدمه في الورع والزهد والعبادة والصيانة وخوطب على أن يلي قضاء القضاة مرتين فامتنع، توفي سنة سبعين وثلاث مائة – عليه رحمة الله تعالى – انظر أخبار أبي حنيفة وأصحابه: (١٦٦-١٦٧) ، وتاريخ بغداد: (٤/٣١٤-٣١٥) ، والمنتظم: (٧/١٠٥-١٠٦) ، وتذكرة الحفاظ: (٣/٩٥٩) ، والبداية والنهاية: (١١/٢٩٧) ، وطبقات المفسرين للداودي: (١/٥٦) ، وشذرات الذهب: (٣/٧١) ، والفوائد البهية: (٢٨) ، والجصاص بفتح الجيم والصاد المشددة وفي آخرها صاد نسبة إلى العمل بالجص وتبييض الجدران كما في اللباب: (١/٢٨١) .
قال مقيد هذه الصفحات – غفر الله الكريم له الزلات، وأقاله العثرات –: تقدمت الأدلة الشرعية عند دراسة فرقة القدرية أنه يجب على الرعية خلع الإمام الجائر إن أمكن فلا فتنة عمية، وإلا فينصح ويخوف من مغبة أحواله الردية، ولا يطاع في مخالفة رب البرية، فكن على بال من تلك القضية السوية.
واعلم أخا الإسلام أنه يتعلق بتغيير المنكر باليد ثلاثة أمور عظام، فدونك بيانها بالحجة والبرهان:
أولها:
إذا قدر الناس على إزالة المنكرات، ولم يأخذوا على أيدي السفهاء والسفيهات، عم سخط الله للمخلوقات، وهم بصدد نزول العقوبة عليهم في جميع الأوقات، وربك يمهل ولا يهمل، ثم يأخذ ولا يؤخر، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن النعمان بن بشير – رضي الله تعالى عنهم جميعاً – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونحوا جميعاً" انظر صحيح البخاري – كتاب الشركة – باب هل يقرع في القسمة؟ والاستهام فيه: (٥/١٣٢) ، وكتاب الشهادات – باب القرعة في المشكلات: (٥/٢٩٢) بشرح ابن حجر فيهما، وانظره في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب منه – أي: من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –: (٦/٧٣٧-٣٣٨) ، والمسند: (٤/٢٦٨-٢٧٠) .
وفي المسند والسنن عن قيس بن جازم قال: قام فينا أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} المائدة١٠٥، وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب".
حاشية: انظر سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر: (٦/٣٣٥) ، وكتاب التفسير – سورة المائدة: (٨/٢٢١) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح وقد رواه غير واحد عن إسماعيل بن أبي خالد نحو هذا الحديث مرفوعاً، وروى بعضهم عن إسماعيل عن قيس عن أبي بكر قوله، ولم يرفعوه، وقال في المكان المتقدم في كتاب الفتن، وفي الباب عن عائشة، وأم سلمة والنعمان بن بشير، وعبد الله بن عمر، وحذيفة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وهذا حديث صحيح، وهكذا روى غير واحد عن إسماعيل نحو حديث يزيد، ورفعه بعضهم عن إسماعيل، وأوقفه بعضهم ١هـ وانظره في سنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي: (٤/٥١٠) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (٢/١٣٢٧) ، والمسند: (١/٢، ٥، ٧، ٩) ، وهو أول حديث فيه، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في الأماكن الأربعة الآتية: (١/١٥٣، ١٦٣، ١٦٨) وضعف سند الرواية الخامسة في: (١/١٧٦) ، وانظره في مسند الحميدي: (١/٣-٤) ، وهو ثالث حديث فيه، ومسند أبي بكر: (١٥٤-١٥٧) رقم: "٨٦، ٨٧، ٨٨، ٨٩"، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (٤٥٥) والعزلة للخطابي: (٢٦) ، وجامع البيان: (٧/٦٤) ، وأحكام القرآن للجصاص: (٢/٣١) ، واستشهد به الحافظ في الفتح: (١٣/٦٠) ، ونسب السيوطي في الدر: (٢/٣٣٩) تخريجه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والعدني، وابن منيع، وأبي يعلى في مسانيدهم، وإلى النسائي في السنن الكبرى، والكجي في سننه وإلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد، وأبي الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء في المختارة ١٠هـ.
هذا وقد أخرج القسم المرفوع من الحديث عن جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً كل من الترمذي في المكان الأول، وأبي داود، وابن ماجه وصحيح ابن حبان في الأمكنة المتقدمة وهو في المسند: (٤/٣٦١، ٣٦٣، ٣٦٦) ، ونسبه السيوطي في الدر: (٢/٣٣٩) إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد أيضاً.
قال راقم هذه الحروف: وآية المائدة تدل على أمر زين، حسبما جاء في شريعة رب الكونين ولا يفهم منها شيء من الدعة وترك القيام بالدعوة كما يتعلق بذلك أهل الشين، فاستمع للتحقيق الذي تقر به العين.
أما الأمر الحق الذي لا تدل الآية الكريمة إلا عليه، فهو ما فهمه صديق هذه الأمة – رضي الله تعالى عنه – ونبه إليه، وهو الذي اختاره ابن جرير في تفسيره: (٧/٦٥) ، وعقد الخنصر عليه، ونقله عنه الخازن في لباب التأويل: (٢/١٠٣) ، ومال إليه، ونص عبارة الإمام ابن جرير – عليه رحمة ربنا الجليل –: وأولي هذه الأقوال، واصح التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – فيها، وهو: يا أيها الذين آمنوا ألزموا أنفسكم العمل بطاعة الله – عز وجل – وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله تعالى عنه "ولاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ"يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله – عز وجل – وأديتم فيمن ضل ما ألزمكم الله به فيه من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحال ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلماً لمسلم أو معاهد، ومنعه منه، فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم، وأديتم حق الله – تبارك وتعالى – فيه ١هـ.
قال عبد الرحيم: فلا مناص من تغيير معصية رب العالمين، فإن قدر على ذلك بيده، فلا تبرأ ذمته إلا بقمع المنحرفين عن صراط الله المستقيم، وإذا عجز عن التغيير باليمين فليصدع بالجهر بالحق المبين، وليقم بما يقتضيه نحو ذلك من الفعل الكريم، إذا لم يجد قوله في المنصوحين، كما سيأتي بيان ذلك بعد حين، وهو في ذلك الحال في سعة من تركهم، وتفويض أمرهم إلى ربهم، كما دل على ذلك أحاديث أبي ثعلبة الخشني، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقد تقدمت مخرجة في أول المبحث الشريف.
وأما الأمر الباطل الذي لا تدل عليه الآية بحال، فهو ما يفهمه أهل الجبن والخور والضلال من أن واجب الإنسان منحصر في العناية بنفسه للبلوغ إلى درجة الكمال، وما عليه بعد ذلك من حرج في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشنآن أهل الزيغ المنحرفين عن الاعتدال غضباً لذي العزة والجلال، وهذا هو فهم أكثر صوفية هذا العصر الأرذال، بل وأكثر من ينتسب إلى شريعة الكبير المتعال من نساء ورجال، ونسأل الله تغير الحال إلى أحسن الأحوال فهو الكريم ولما يشاء فعال.
ثاني الأمور المتعلقة بتغيير الضلال والفجور بالقوة والفعل المبرور:
تقدم في أول هذا البحث الشريف أن من قدر على تغيير المنكر من غير وقوع أذى عليه من ضرب أو قتل فواجب عليه التغيير، وإن لحقه لوم وتعنيف من ذوي الشر والتقصير، والذي أريد أن أقرره هنا أنه لو خشي وقوع ضرب لبدنه، وقتل لنفسه من جراء أمره ونهيه فلا يجبا عليه، ولو اقتحمهما لصحة النية لديه، فذلك مما يشكر عليه، عند من تصير الأمور إليه، قال الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: (١/٢٦٦-٢٦٧) : فإن خاف على نفسه من تغيير المنكر الضرب أو القتل، فإن رجا زواله جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج فأي فائدة فيه؟ والذي عندي: أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف كان ولا يبالي، فإن قيل: هذا إلقاء بيده إلى التهلكة، قلنا: قد بينا معنى الآية في موضعها ١هـ، قال عبد الرحيم: وهذا هو الحق المبين وتوهم القرطبي في تفسيره: (٤/٤٨) معارضة هذا لما نقل من إجماع المسلمين، لا صحة له يا أخي الكريم، وفي إحياء علوم الدين: (٢/٣٤٥) إذا علم المتطوع بالحسبة أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجه الفاسق بحجر فيكسرها، ويريق الخمر الذي فيها أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال ويتعطل عليه هذا المنكر، ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه، فهذا ليست الحسبة عليه بواجبة وليست بحرام بل هي مستحبة ويدل على الاستحباب الخبر الذي أوردناه في فضل كلمة الحق عند الإمام الجائر – تقدم تخريج الحديث في كتاب الملل والنحل –.
قال الغزالي: فإن قيل: فما معنى قوله – تبارك وتعالى –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" البقرة ١٩٥، قلنا: لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار، ويقاتل وإن علم أنه يقتل، وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية وليس كذلك فقد قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: ليس التهلكة ذلك، بل ترك النفقة في طاعة الله – تبارك وتعالى – أي: من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه، وقال البراء بن عازب – رضي الله تعالى عنه –: التهلكة: هو أن يذنب ثم يقول لا يتاب عليّ، وقال أبو عبيدة – رضي الله تعالى عنه –: هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيراً حتى يهلك.
حاشية: انظر أثر ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في: (٢/١١٦-١١٧) من تفسير الطبري، وتفسير الثوري: (٥٩) ، ورواه عنه وكيع والبيهقي والفريابي وابن المنذر كما في الدر المنثور: (١/٢٠٧) ، ونقل هذا القول عن عدد من السلف الكرام فانظر تفصيل ذلك في جامع البيان والدر المنثور، وتفسير الثوري، وانظر أثر البراء في تفسير الطبري: (٢/١١٨) ، ومستدرك الحاكم – كتاب التفسير – سورة البقرة: (٢/٢٧٥-٢٧٦) ،وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه عنه وكيع بن عيينة والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر: (١/٢٠٨) ، ونقل هذا القول عن غيره من السلف أيضاً فانظر ذلك في جامع البيان والدر المنثور.
وأما أثر أبي عبيدة فلم أعثر عليه، والذي يظهر لي وجودهم من الطابع في زيادة "أبي" لأن الأثر منقول عن عبيدة السلماني التابعي لا عن أبي عبيدة الصحابي كما في تفسير الطبري: (٢/١١٨) ، ورواه عنه وكيع وعبد بن حميد كما في الدر: (١/٢٠٨) ، والله أعلم.
وإذا جاز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضاً له ذلك في الحسبة، ولكن لو علم أنه لا نكابة لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام، وداخل تحت عموم آية التهلكة، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل على أن يقتل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة، فتنكسر بذلك شوكتهم، فكذلك يجوز للمحتسب له أن يعرض نفسه للضرب والقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية أهل الدين ١هـ.
قال مقيد هذه الصفحات: ومال كلام الإمامين ابن العربي والغزالي شيء واحد فإذا صلحت نية المحتسب، وأراد إعزاز الدين، وكسر شوكة الفاسقين، وتقوية قلوب المؤمنين، وإظهار تفاهة الدنيا عند الصادقين، وتعليق همتهم بما عند رب العالمين، فليقدم كيف كان ولا يبالي بأحد من المخلوقين، كما قال سحرة فرعون اللعين عندما آمنوا برب العالمين، وتهددهم عدو الله بالعذاب الأليم: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} طه٧٢-٧٣.
قال عبد الرحيم: نقل عن سلفنا الصالحين، ثلاثة أقوال في تفسير قول رب العالمين: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة١٩٥ والآية الكريمة أعم من ذلك وإليك التحقيق المنير للحوالك:

القول الأول:
نقل عن عدد من السلف البررة أن المراد من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: الامتناع عن بذل النفقة في قتال أعداء الله الكفرة، لأن ذلك سيؤدي إلى استيلاء العدو عليهم وإهلاكهم، نقل هذا عن حبر الأمة وبحرها ابن عباس، وعن حذيفة ابن اليمان، وعن البراء بن عازب أيضاً وعن جم غفير من التابعين – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في التعليقة السابقة، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة راجع إلى عدم النفقة المأمور بها في قوله – جل وعلا – في صدر الآية: "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله".
القول الثاني:
قال كثير من سلفنا الأبرار: إن المراد من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: القنوط من رحمة العزيز الغفار، وعدم التوبة من الذنوب والأوزار، وذلك من خصال الأشرار، وهو موصل بلا شك إلى الهلكة في هذه الدار، وإلى العذاب الأليم في النار، وممن قال بهذا القول البراء بن عازب، والنعمان بن بشير، وعبيدة السلماني – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – والأثر ثابت عن البراء ثبوت صحة كما تقدم بيان ذلك في التعليقة السابقة وقول الألوسي في روح المعاني: (٢/٧٨) إن القول بذلك في غاية البعد، ولم أر من صحح خبر البراء سوى الحاكم، وتصحيحه لا يوثق به ١هـ لا يؤبه به، ولا يركن إليه، ولا يعول عليه، فخبر البراء على شرط الشيخين كما قال الحاكم وأقره الذهبي، ونقل ذلك عنه السيوطي في الدر ولم يعترض عليه، وأثر النعمان بن بشير رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (٦/٣١٧) ، ورواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر المنثور: (١/٢٠٨) ونقله البغوي في معالم التنزيل عن أبي قلابة: (١/١٧٢) ، وهو من التابعين.
وعلى هذا القول يكون قوله – جل وعلا –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" متعلقاً بقوله – جل جلاله – في الآيات السابقة: {فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} البقرة١٩٢.
القول الثالث:
قال بعض سلفنا ذوي الرشاد: إن المراد من الإلقاء بالأيدي إلى الهلاك ترك الجهاد، والإقامة مع الأهل والمال والأولاد، نقل هذا عن أبي أيوب – عليه رضوان علام الغيوب – ففي السنن وصحيح ابن حبان والمستدرك عن أسلم أبي عمران التجيبي قال: كنا بمدينة فأخرجوا غلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري – عليه رضوان ربنا الباري – فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله – تبارك وتعالى – على نبيه – صلى الله عليه وسلم – يرد علينا ما قلنا: "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب – عليه رضوان علام الغيوب – شاخصاً في سبيل الله – عز وجل حتى دفن بأرض الروم بالقسطنطينية.
حاشية: انظر سنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة البقرة –: (٨/١٦٤-١٦٥) ، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الجرأة والجبن: (٣/٢٧) ، ومستدرك الحاكم – كتاب التفسير – سورة البقرة –: (٢/٢٧٥) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الجهاد – باب ما جاء في الجرأة –: (٤٠١) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب التفسير – سورة البقرة –: (٢/١٣) ، وتفسير الطبري: (٢/١١٩) ، وأحكام القرآن للجصاص: (١/٢٦٢) ، ورواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر: (٢٦٩-٢٧٠) ، وعبد بن حميد، والنسائي وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في سننه كما في الدر المنثور: (١/٢٠٧) .
وعلى هذا القول فقوله – جل وعلا –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" متعلق بقوله – جل وعز – في الآيات السابقة: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} البقرة١٩٠.
قال راقم هذه الحروف: التهلكة مصدر كالهلك والهلاك، والمراد من النهي عن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة النهي عن كل ما يتسبب عنه هلاك النفس وشقاؤها، وذلك شامل للأقوال الثلاثة وغيرهما، وما تقدم من الأقوال عن سلفنا الأبرار هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، قال الإمام الجصاص في أحكام القرآن: (١/٢٦٢) : وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية، لاحتمال اللفظ لها، وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف ١٠هـ وهذا ما قرره الإمام ابن كثير فقال في تفسيره الجليل: (١/٢٢٩) ، ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات خاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوي به المسلمون على عدوهم والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده ١٠هـ. وقرر ذلك قلهما الإمام ابن جرير فقال في تفسيره الكبير: (٢/١١٩) ، والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله – جل ثناؤه – أمر بالإنفاق في سبيله بقوله: "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ" وسبيله: طريقه الذي شرعه لعباده وأوضحه لهم، ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة فقال: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ"،وذلك مثل، والعرب تقول للمستسلم للأمر أعطى فلان بيديه وكذلك يقال للممكن من نفسه مما أريد به أعطى بيديه، فمعنى قوله – عز وجل –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ": لا تستسلموا للهلكة فتعطوها أزمتكم فتهلكوا، والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذ ... لك عليه مستسلم للهلكة بتركه أداء ما فرض الله عليه في ماله، وذلك أن الله – جل ثناؤه – جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله فقال – جل وعلا –: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة٦٠، فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه كان للهلكة مستسلماً، وبيديه للتهلكة ملقياً، وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف منه ملق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يوسف٨٧، وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم في حال وجوب ذلك عليه في حال حاجة المسلمين إليه مضيع فرضاً علق بيده إلى التهلكة، فإذا كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله – جل وعلا –: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" ولم يكن الله – عز وجل – خص منها شيئاً دون شيء فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه، غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله – ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي ١هـ.
وعلى كل حال فليس معنى الآية الكريمة بكل اعتبار عدم مقاومة الأخيار للأشرار وإن تحققوا إصابتهم بالأخطار ثبت في مسند الإمام أحمد: (٤/٢٨١) بسند رجاله رجال الصحيح غير سليمان ابن داود الهاشمي، وهو ثقة كما في مجمع الزوائد: (٥/٣٢٨) ، وبوب عليه الهيثمي باباً في كتاب الجهاد بهذا الخصوص فقال: باب فيمن يحمل على العدو وحده، ولفظ الأثر عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، لأن الله – عز وجل – بعث رسوله – صلى الله عليه وسلم – فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} النساء٨٤، إنما ذاك في النفقة، رواه الطبري في تفسيره: (٢/١١٨) بلفظ: "لا، ليقاتل حتى يقتل، قال الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم –: "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ"، قال الجصاص في أحكام القرآن: (١/٢٦٢) ، وقيل: هو – أي التهلكة – أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو، وهو التأويل الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وأخبر فيه بالسبب، ثم قرر الجصاص أن حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على تلك الشاكلة، فمن رجا نفعاً في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلا درجات الشهداء ١٠هـ وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلال: (٩٣-٩٤) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد، قال أبو عبد الله – الإمام أحمد – عليه رحمة الله تعالى –: نحن نرجو إن أنكر بقلبه فقد سلم، وإن أنكر بيده فهو أفضل، وسئل عن الرجل يأمر بالمعروف بيده، فقال: إن قوي على ذلك فلا بأس به، فقيل له: قد جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم –: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه"
حاشية: أخرجه الترمذي – كتاب الفتن – باب "٦٧": (٧/٣٥) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه – كتاب الفتن – باب قوله تعالى –: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ": (٢/١٣٣٢) ، والمسند: (٥/٤٠٥) ، ورواه أبو يعلى، والضياء في المختارة كما في جمع الجوامع: (١/٩٤٠) كلهم عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يطيق".
والحديث رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من رواية ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – ورجال الطبراني في الكبير رجال الصحيح غير زكريا بن يحيى بن أيوب ذكره الخطيب، روى عن جماعة وروى عنه جماعة ولم يتكلم فيه أحد، ورواه الطبراني في الأوسط أيضاً عن على –رضي الله تعالى عنه – من طريق الخضر عن الجارود ولم ينسبا ولم أعرفهما كما في مجمع الزوائد: (٧/٢٧٥) .
بأن يعرضها من البلاء ما لا طاقة له به، قال: ليس هذا من ذلك ١٠هـ وهذا – بلا شك – كلام العلماء الصلحاء، لأن ما ينال الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الإيذاء من قبل المردة والسفهاء سيكون سبباً لرفعة درجته وعزة نفسه عند رب الأرض والسماء، حيث حصل منه الوفاء بالصفقة التي تمت بين خالق الأشياء، وبين أهل الخوف والرجاء {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة١١١، ومن الطريف ما يتعلق بهذه الآية، وجليله وجميله أن حمزة والكسائي وخلف – عليهم رحمة الله تعالى – قرأوا بتقديم الفعل المجهول في: " فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ " كما في تقريب النشر: (١٠٣) ، وفي ذلك دلالة على عظيم مدحهم لتعلق هممهم بالاستشهاد في سبيل الله رب العباد، ومن لم يرزق منهم شرف الاستشهاد فما وهن بعد قتل إخوانه أهل الرشاد، بل قاتل بجرأة حتى قتل أهل الفساد والعناد كما في حجة القراءات: (٣٢٥) ، وروح المعاني: (١١/٢٩) .
ثالث التنبيهات المتعلقة بإزالة المنكرات:
إذا كان مغير المنكر بيده لا يلحقه من تغييره إلا اللوم والتعنيف فيجب عليه إزالة الفساد، واحتساب أجره على ما يلقاه من الأذى عند رب العباد، وأما إذا تحقق حصول ضرب له فما فوقه جاز له أن يغيره، بل يستحب، وما يصيبه من الأذى يكافئه عليه الرب.
والذي أريد بيانه هنا: تحديد درجة الاحتمال التي تسقط عن المكلف واجب تغيير المنكر باليد، قال الغزالي في الإحياء: (٢/٣١٦) : إن غلب على الظن أنه يصاب لم يجب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب، ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب، فإن ذلك ممكن في كل حسبة، وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل نظر، فيحتمل أن يقال: الأصل الوجوب بحكم العمومات، وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أن يعلم حتى يكون متوقعاً، وهذا هو الأظهر، ويحتمل أن يقال إنما يجب عليه إذا علم أنه لا شرر فيه عليه، أو ظن أنه لا ضرر عليه، والأول أصح نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف ١هـ.
وصفوة الكلام إن تحقق إصابته بضرب فما فوقه لا يجب عليه التغيير باليد، وكذلك إن غلب على ظنه، ويستحب له في تينك الحالتين التغيير واحتساب أجره عند الخبير البصير، ومجرد تجويز حلول العذاب عليه واحتمال نزوله به لا يسقط وجوب تغيير المنكر باليد بالإجماع، وأما إذا شك من غير رجحان في أحد الطرفين فالمعتمد وهو الحق وجوب إزالة المنكر باليد نظراً لقضية الأصل ولا يوجد ما يعارضه، فعض أخي الجليل بالنواجذ على هذا التفصيل، وقم بما يجب عليك نحو العليّ الكبير، وحذار حذار من المبالاة بالمخلوق الحقير الذي ليس له من الأمر قليل ولا كثير، ولا يملك من نقير ولا قطمير.
ثاني المباحث الخمسة:
إذا عجز المكلف عن تغيير المنكر بيده حسب التفصيل المتقدم بأدلته فيتعين عليه الإنكار باللسان إذا لم يخش وقوع ضرر على الأبدان كما تقدم بيان هذا في أحاديث خير الأنام – عليه الصلاة والسلام – فإن زالت المعاصي والآثام بذلك النصح والبيان فالأمة في خير وعافية من ربنا الرحمن، وإلا فهي مهددة بالعقوبة والانتقام، وسيعم ذلك جميع الأنام، كما قال ذو الجلال والإكرام: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الأنفال٢٥، قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة: (٢/٢٩٨-٢٩٩) : يحذر الله – تبارك وتعالى – عباده المؤمنين فتنة واختباراً ومحنة يعم بها المسيء وغيره لا يخص بها أهل المعاصي، ولا من باشر الذنب بل يعمها حيث لم تدفع ولم ترفع ١هـ وروى ابن جرير في تفسيره: (٩/١٤٤) ، وابن أبي حاتم كما في الإكليل: (١١٣) ، وابن المنذر، وأبو الشيخ كما في الدر: (٣/١٧٧) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: أمر الله – عز وجل – المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب، قال الإمام ابن كثير: (٢/٢٩٩) ، وهذا تفسير حسن جداً، والقول بأن هذا التحذير يريعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن، ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه – إن شاء الله تعالى – كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف ١هـ وهذا هو المعتمد في تفسير الآية الكريمة، وهو الذي تعضده الأحاديث الصحيحة كما في تفسير القرطبي: (٧/٣٩١) ، وسيأتيك ذكرها قريباً فلا تعجل، وفي تفسير الطبري: (٩/١٤٤) عن مجاهد قال: هي أيضاً لكم، وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك كما في الدر المنثور: (٣/١٧٧) ، قال: تصيب الظالم، والصالح عامة.
قال عبد الرحيم: وتلك الإصابة العامة تكون عقوبة للمفسدين، وإخوانهم المقرين لهم على معصية رب العالمين، وأما في حق المنكرين لما يسخط أحكم الحاكمين فتكون طهرة لهم عند مالك يوم الدين، ومصيبة ينالون بها الأجر الكريم، وإليك بعض أحاديث خاتم النبيين – عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم – في تقرير ذلك الأمر العظيم.
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم" قالت: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟، قال: "بخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتم".
حاشية: انظر صحيح البخاري بشرح الحافظ: (٤/٣٣٨) – كتاب البيوع – باب ما ذكر في الأسواق – وعلق الجملة الأولى منه في كتاب الحج – باب هدم الكعبة – عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – مرفوعاً: (٣/٤٦٠) بشرح ابن حجر، وانظره في صحيح مسلم – كتاب الفتن – باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت: (٤/٢٢٠٨-٢٠١١) ، وهو في المسند: (٦/١٠٥، ٢٥٩) ، ورواه مسلم أيضاً في نفس المكان عن أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – وهو عنها في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب "١٠": (٦/٣٣٧) ، وأشار إلى الرواية المتقدمة، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب جيش البيداء: (٢/١٣٥١) ، وسنن أبي داود – كتاب المهدي: (٤/٤٧٦) ، والمسند: (٦/٢٨٩ - ٢٩٠، ٣١٦-٣١٧، ٣٢٣) ، ورواه عنها الطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد – كتاب الفتن – باب ما جاء في المهدي –: (٧/٣١٤-٣١٦) .
والحديث رواه الترمذي عن صفية – رضي الله تعالى عنها – في كتاب الفتن – باب ما جاء في الخسف: (٦/٣٤٧) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المكان المتقدم، وأحمد المسند: (٦/٣٣٦-٣٣٧، ٣٣٧) .
والحديث رواه ابن ماجه عن حفصة – رضي الله تعالى عنها – في المكان المتقدم، وهو في المسند: (٦/٢٨٦، ٢٨٧) ، ومسند الحميدي: (١/١٣٧) رقم "٢٨٦"، ورواه الطبراني في الأوسط عن أم حبيبة – رضي الله تعالى عنها – كما في مجمع الزوائد في المكان المتقدم –، ورواه البزار عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد في المكان المتقدم.
وقوله: "أسواقهم" بالمهملة والقاف جمع سوق، والمعنى: أهل أسواقهم أو السوقة منهم، وقوله: "ومن ليس منهم" أي: من رافقهم ولم يقصد موافقتهم، كما في الفتح: (٤/٣٤٠) ، وفي رواية لمسلم: "فقلنا يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستبصر والمجبور، وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم" ووجه الاستدلال بهذا الحديث الشريف أن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – لما استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة، أجيبت بأن العذاب يقع عاماً لحضور آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم، فيخسف بالجميع لشؤم الأشرار، ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده، كما في الفتح: (٤/٣٤٠-٣٤١) ، وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (١٨/٧) في هذا الحديث من الفقه: التباعد من أهل الظلم والتحذير من مجالستهم ومجالسة البغاة ونحوهم من المبطلون لئلا يناله ما يعاقبون به، وفيه: أن من كثر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا ١٠هـ ونحوه في شرح السنوسي: (٧/٢٣٩) .
وثبت في الصحيحين والمسند عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم" وفي رواية ابن حبان عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: إن الله إذا أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم؟ فقال: "يا عائشة إن الله – عز وجل – إذا أنزل سطوته بأهل نقمة وفيهم الصالحون فيصابون معهم، ثم يبعثون على نياتهم".
حاشية: انظر صحيح البخاري بشرح الحافظ: (١٣/٦٠) – كتاب الفتن – باب إذا أنزل الله بقوم عذاباً، وصحيح مسلم آخر كتاب الجنة وصفة نعيمها: (٤/٢٢٠) ، والمسند: (٢/٤٠) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب أنهلك وفينا الصالحون: (٤٥٧) ، واستشهد الحافظ في الفتح: (١٣/٦٠) برواية ابن حبان وحكى المنذري في الترغيب والترهيب: (٣/٢٢٧) تصحيح ابن حبان وأقره.
قال الحافظ في الفتح: (١٣/٦٠) قوله: "أصاب العذاب من كان فيهم" أي: ممن ليس هو على رأيهم، وقوله: "ثم بعثوا على أعمالهم" أي: بعث كل واحد منهم على حسب عمله – إن كان صالحاً فعقباه صالحة، وإلا فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين، ونقمة على الفاسقين أخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق الحسن بن محمد بن أبي طالب عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – مرفوعاً: "إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه فيهم، قيل: يا رسول الله وفيهم أهل طاعته؟ قال: نعم ثم يبعثون إلى رحمة الله تعالى" ١٠هـ قال راقم هذه الحروف: وهذه الرواية رواها أحمد في المسند: (٦/٤١) ، وفي إسناده امرأة لم تسم كما في مجمع الزوائد: (٧/٢٦٨) .
حاشية: وفي المستدرك – كتاب الفتن والملاحم –: (٤/٥١٦) ، عن أنس بن مالك قال: دخلت على أمنا عائشة ورجل معها – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – فقال الرجل: يا أم المؤمنين، حدثينا عن الزلزلة فقالت: يا أنس إن حدثتك عنها عشت حزيناً، وبعثت حين تبعث وذلك الحزن في قلبك، فقلت: يا أماه حدثينا، فقالت: إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله – عز وجل – من حجاب، وإن تطيبت لغير زوجها كان عليها ناراً وشنارا، فإذا استحلوا الزنا وشربوا الخمور بعد هذا وضربوا المعازف غار الله في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا هدمها عليهم، فقال أنس: عقوبة لهم؟ قالت: رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين، ونكالاً وسخطة وعذاباً للكافرين، قال أنس: فما سمعت بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثاً أنا أشد به فرحاً مني بهذا، بل أعيش فرحاً، وأبعث حين أبعث وذلك الفرح في قلبي، أو قال في نفسي، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بقوله: بل أحسبه موضوعاً على أنس، ونعيم بن حماد منكر الحديث إلى الغاية، مع أن البخاري روى عنه ١هـ وفي حكم الذهبي مبالغة بل مجازفة، فما سبب وضع الحديث؟ ونعيم لا يصل أمره على حد غاية النكارة، فهو في الميزان: (٤/٢٦٧) قال عنه: أحد الأئمة الأعلام على لين في حديثه ١هـ وقال عنه في الكاشف: (٣/١٨٢) مختلف فيه ١هـ والمعتمد في أمره ما قاله الحافظ في التقريب: (٢/٣٠٥) صدوق يخطئ كثيراً ١هـ والحديث استشهد به ابن القيم في إغاثة اللهفان: (١/٢٦٤) من غير طريق نعيم، ونسب تخريجه لابن أبي الدنيا، وله شواهد كثيرة صحيحة.
وورد مثلها أيضاً في المسند: (٦/٣٠٤، ٣١٨) بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح كما في المجمع: (٧/٢٦٨) عن أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – قالت سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم اله بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم صالحون؟ قال: بلى، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان.
وما تقدم من الأحاديث الصحيحة من عموم هلاك الناس صالحهم وطالحهم، عند انتشار المنكرات بين ظهرانيهم، ثم يتفاوتون عند ربهم بحسب نياتهم، يوضح ما ورد من الأحاديث المصرحة باستواء الناس في عقوبة العاجل، دون بيان مصيرهم في الآجل فتنبه لهذا البيان، واحمل الأحاديث الساكتة عن بيان مصير المتقين عند الرحمن، مع مشاركتهم في العقوبة العاجلة لأهل العصيان، على تلك التحقيقات الحسان، من أمثال حديث أمنا حبيبة بنت أبي سفيان عن أمنا زينب بنت جحش – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل عليها يوماً فزعاً يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه – وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها – قالت أمنا زينب ابنة جحش قلت: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث".
حاشية: انظر صحيح مسلم البخاري بشرح ابن حجر: (١٣/١١، ١٠٥-١٠٦) – كتاب الفتن – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "ويل للعرب من شر قد اقترب" – باب يأجوج ومأجوج –، وصحيح مسلم – أول كتاب الفتن –: (٤/٢٢٠٧) ، وسنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء من خروج يأجوج ومأجوج: (٦/٣٤٨-٣٤٩) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب ما يكون من الفتن: (٢/١٣٠٥) ، والمسند: (٤/٤٢٨-٤٢٩) ، ومسند الحميدي: (١/١٤٧-١٤٨) ، ورواه الطبراني في الأوسط عن أمنا أن حبيبة – رضي الله تعالى عنها – بسند رجاله ثقات، ورواه في الصغير والأوسط عن أنس – رضي الله تعالى عنه – بسند رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الزوائد: (٧/٢٦٩) .
قال الإمام ابن العربي في عارضة الأحوذي: (٩/٣٦) ، ونقله عنه الحافظ في الفتح: (١٣/١٠٩) ، قوله: "نعم" في هلاك الصالح مع الطالح البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير، وفيه وجهان: أحدهما: إذا لم يغير عليه خبثه. والثاني: إذا غير لكنه لم ينفع التغيير، بل كثر المنكر بعد النكير، فيهلك حينئذ القليل والكثير، ويحشر كل أحد على نيته، عدل الله في حكمه بحكمته ١هـ، وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: (١٨/٣-٤) : "الخبث" فتح الخاء والباء، وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقاً، ومعنى الحديث: أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون ١٠هـ، وما فسر به الجمهور لفظ: "الخبث"، واستظهره الإمام النووي فواه الحافظ في الفتح: (١٣/١٠٩) فقال: وهو أولى، لأنه قابله بالصلاح ١٠هـ قلت: وذلك شامل لفشو أولاد الزنا، ويدخل ذلك الأمر دخولاً في الخبث فاعلم، وفي المسند: (٦/٣٣٣) ورواه أبو يعلى والطبراني وفي سند الحديث محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين، ومحمد بن إسحاق قد صرح بالسماع فالحديث صحيح أو حسن، كما قال الهيثمي في المجمع: (٦/٢٥٧) ، عن أمنا ميمونة – رضي الله تعالى عنها – قالت: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "لا تزال أمتي بخير – ولفظ أبي يعلى والطبراني: لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها – ما لم يفشى فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب".
قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له الآثام – يتعلق بإنكار باللسان، تنبيهان عظيمان فكن على بال منها يا أخا الإسلام:
التنبيه الأول:
إذا خشي الإنسان من وقوع ضرر على الأبدان إذا أمر بالمعروف ونهى عن الآثام عن طريق اللسان، فيجوز له السكوت كما تقدم في ذلك البيان، ويجوز له بل يستحب الجهر والإعلان، وتحمل البلاء الذي يقع على الأبدان ولو كان عن طريق الحسام أو التحريق بالنيران، طلباً لنيل الرضوان، والأجور العظام، عند ذي الجلال والإكرام، وإليك تقرير هذا بالأدلة القوية الحسان.
ثبت في المسند والسنن بإسناد صحيح حسن أن رجلاًً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: أي الجهاد أفضل؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "كلمة حق عند سلطان جائر" ولاشك في أن ذلك مظنة خوف من وقوع ضرر عليه كما في الإحياء: (٢/٣١٥) بل أقول – القائل راقم هذه الحروف – إن وقوع الضرر عليه متحقق وقوعه في الغالب لديه، ومع ذلك فقد أثنى نبينا – صلى الله عليه وسلم – عليه، وفي الحديث الذي يشهد له ما قبله: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
حاشية: تقدم تخريج الرواية الأولى في كتاب الملل والنحل: (٣٥) ، وأما الرواية الثانية فرواها الحاكم في المستدرك – كتاب معرفة الصحابة – رضي الله تعالى عنهم –: (٣/١٩٥) ، والخطيب في تاريخ بغداد: (٦/٣٧٧) بلفظ: "أفضل الشهداء" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بقوله ك قلت حفيد الصغار لا يدري من هو ١٠هـ وقد تابعه حكيم بن زيد الأشعري في رواية الحديث عن إبراهيم الصائغ عند الخطيب، وحكيم متروك كما في الميزان: (١/٥٨٦) عن الأزدي، وفي اللسان: (٢/٢٤٤) ، وأسند له عن عطاء عن جابر – رضي الله تعالى عنه – رفعه: "أفضل الشهداء حمزة ... " الحديث ١٠هـ وقد أخرج الحديث الطبراني في الأوسط بسند فيه راو ضعيف عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – كما في مجمع الزوائد: (٧/٢٧٢، ٩/٢٦٨) ،ونسب السيوطي في الجامع الصغير رواية جابر – رضي الله تعالى عنه – إلى الضياء المقدسي، ونسبها المناوي في الشح: (٤/١٢١) إلى الدليمي، وفي مسند البزار وفيه ممن لم أعرفه اثنان كما في مجمع الزوائد: (٧/٢٧٢) عن أبي عبيدة – رضي الله تعالى عنه – قال: قلت يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أي الشهداء أكرم على الله – عز وجل – قال: "رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف ونهاه عن منكر فقتله" قال عبد الرحيم: والرواية الصحيحة المتقدمة: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" تشهد لهذا الحديث فيعتضد بها فاعلم، والله تعالى أعلم.
وهذا الأمر – أعني جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، وإن خشي على نفسه من بغي أهل الظلم والعدوان – يقرره أيضاً ما تقدم قريباً من جواز تغيير المنكر بالفعال، وإن تحقق لحوق الأضرار به من قبل الأشرار، بل إن ذلك يدل على جواز تغيير المنكر باللسان، وإن تأكد وقوع الضرر على نفسه من أهل العصيان من باب أولى عند أئمة الإسلام، لأن وقوع الضرر عليه في حال تغييره المنكر بيديه آكد وأقوى لديه، فإذا جاز ما هو أقوى، فجواز ما دونه أولى وأحرى.
واعلم أن هذا الأمر الذي أرشدت الأدلة إليه حرض سلفنا الكرام عليه ولهم في ذلك مواقف مزبورة، وأقوال سديدة مأثورة، ينالون عليها – إن شاء الله – أجوراً كثيرة، عند ربنا العالم بما في السريرة، قال ابن حبان – عليه رحمة ربنا الرحمن – في مشاهير علماء الأمصار: (١٩٥) ذكر مشاهير أتباع التابعين بخراسان الذين سكنوها من الثقات والأثبات في الروايات، إبراهيم بن ميمون الصائغ، أبو إسحاق من أهل مرو، من الآمرين بالمعروف، والمواظبين على الورع، الموصوف مع الفقه في الدين والعبادة الدائمة، قتله أبو مسلم الخراساني سنة إحدى وثلاثين ومائة – رحمه الله تعالى – ١هـ. وبذلك أرخه البوي في المعرفة والتاريخ: (٣/٣٥٠) ، وفي الميزان: (١/٦٩) ، وشذرات الذهب: (١/١٨١) ، قتله أبو مسلم الخراساني ظلماً ١٠هـ وفي تهذيب التهذيب: (١/١٧٣) قال ابن معين: ثقة وكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها ١٠هـ وإليك سبب قتله كما في أحكام القرآن للجصاص: (٢/٣٣) قال الإمام عبد الله بن المبارك: لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ – رحمهم الله جميعاً بكى حتى ظننا أنه سيموت، فخلوت به، فقال: كان والله رجلاً عاقلاً، ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر، قلت: وكيف كان سببه؟ قال: كان يقدم ويسألني، وكان شديد البذل لنفسه في طاعة الله – عز وجل – وكان شديد الورع، وكنت ربما قدمت إليه شيئاً فيسألني عنه، ولا يرضاه ولا يذوقه، وربما رضيه فأكله، فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله – تبارك وتعالى – فقال لي: مد يدك حتى أبايعك، فأظلمت الدنيا بيني وبينه، فقلت: ولم؟ قال: دعاني على حق من حقوق الله – عز وجل – فامتنعت عليه، وقلت له: إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر، ولكن إن وجد عليه أعواناً صالحين، ورجلاً يرأس عليهم مأموناً على دين الله – جل وعلا – لا يحول، قال: وكان يقتضي ذلك كلما قدم عليّ تقاضى الغريم الملح، كلما قدم عليّ تقاضاني، فأقول له: هذا أمر لا يصلح بواحد، ما أطاقته الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – حتى عقدت عليه من السماء، وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض، لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده، وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه، وعرض نفسه للقتل، فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه، وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه، ولكنه ينتظر، فقد قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة٣٠ ثم خرج إلى مرو حيث كان أبو مسلم، فكلمه بكلام غليظ فأخذه فاجتمع عليه فقهاء خراسان وعبادهم حتى أطلقوه، ثم عاوده، فزجره، ثم عاوده، ثم قال ما أجد شيئاً أقوم به لله – تبارك وتعالى – أفضل من جهادك، لأجاهدك بلساني ليس لي قوة بيدي، ولكن يراني الله، وأنا أبغضك فيه، فقتله ١٠هـ.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين –: ومن طريف ما يتعلق بحادثة إبراهيم بن ميمون الصائغ أنه هو أحد رواة الحديث الرائع: "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فتله" فهو الذي رواه عن عطاء عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم –، وقد دل مسلكه على مطابقة عمله لقوله، طلباً لنيل رضوان ربه، نسأل الله أن يتقبل عمله المبرور، وأن يمن علينا بمثل سعيه المشكور، إنه عزيز غفور.
واعلم أخي الكريم أنه لا خلاف بين سلفنا الصالحين في استحباب الجهر بالحق المبين إذا قوي المكلف على تحمل العذاب الأليم من قبل أعداء الله المجرمين، فإن لم يوطن المكلف نفسه على تحمل العذاب، وخشي أن يجره ذلك إلى الانحراف عن شرع الملك الوهاب، فلا ضير عليه في عدم الإنكار بلسانه على أهل التباب، مع لزومه الصواب، كما سأوضح هذا عما قريب بفصل الخطاب.
وإذ قد اتضح لك الحق الواضح، فنزل عليه كلام سلفنا الصالح ففي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (٨٦) قيل لشعيب بن حرب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: لولا السيف والسوط وأشباه هذا لأمرنا ونهينا، فإن قويت فأمر وانه، وفيه: (٨٣-٨٤) ذكر الإمام أحمد ابن مروان الذي صلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فترحم عليه، وقال: قد قضى ما عليه وذكر أيضاً ابن أبي خالد، وكان الإمام أحمد عرف قصته في إقدامه فقال: قد عانت عليه نفسه وفيه: (٩٠) ، وفي الإحياء: (٢/٣٠٨) قيل لسفيان الثوري: ألا تأتي السلطان فتأمره؟ فقال: إذا انبثق البحر فمن يسكره؟ وفي الإحياء أيضاً – نفس المكان السابق – قيل للفضيل بن عياض: ألا تأمر وتنهي؟ فقال: إن قوماً أمروا ونهوا فكفروا، وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا.
قال راقم هذه الحروف – وقاه الله من الفتن والحتوف – وعلى القولين الأخيرين قول الفضيل بن عياض وسفيان – عليهم جميعاً رحمة ربنا الرحمن – يتنزل ما ثبت عن نبينا – عليه الصلاة والسلام –: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق" وقد تقدم تخريج الحديث قريباً وهو حديث حسن، فمن علم عدم انتفاع المنصوح بنصحه لغلبة الشح عليه، وإيثار الدنيا لديه، واتباعه لهواه مع إعجابه به جاز له عدم أمره ونهيه، فكيف إذا تحقق وقوع عذاب به، وانضم إلى ذلك شدة جزعه وعدم صبره، بحيث سيقود ذلك للتلبس بمنكرات طلباً للتخلص مما حل به من بليات، إن سكوته في هذه الحالة متعين ليسلم له دينه، فكم وكم من إنسان قام بالجهر بالحق ومقارعة أهل العصيان، فلما نزلت به العقوبة والانتقام، لجأ لصنف آخر من أهل الإجرام، بينهم وبين من عاداهم خلاف على اكتساب الحطام، فأعطاهم الولاء، لينجو مما نزل به من البلاء فحل عليه غضب رب الأرض والسماء، بل بعضهم صار في عين من عاداه وصار من حزبه ووالاه، ولم يبال بمقت مولاه، فلته ثم ليته ترك الأمر من أول الأمر، لئلا يقع فيما وقع فيه من فساد وفكر، نسأل الله الإخلاص والثبات، وحسن الخاتمة عند الممات، إنه كريم مجيب الدعوات.
وصفوة المقال: يجوز السكوت عند تلك الاعتبارات، كما دل على ذلك الأحاديث الثابتة عن خير البريات – صلى الله عليه وسلم – والجهر بالحق لمن قوي عليه أفضل وإن جر عليه أشنع النكبات وأفظع العقوبات، وليس ذلك إلقاء بالنفس للتهلكات، بل ذلك من باب بيعها في سبيل رب الأرض والسموات، ولا يقوى على ذلك إلا أصحاب الهمم العالميات، ففي المسند والسنن، وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قام خطيباً فكان فيما قال: "ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه" فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا، وفي لفظ المسند: "لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق إذا علمه" وفي لفظ له أيضاً: "ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق، أو يذكر بعظيم" ولفظ ابن حبان: "لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول أو يتكلم بحق إذا رآه أو عرفه" قال أبو سعيد: فما زال بنا البلاء حتى صرنا وإنا لنبلغ في السر، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان بسند حسن عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا ينبغي لمؤمن شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به، فإنه لن يقدم أجله، ولن يحرمه رزقاً هو له".
حاشية: انظر الحديث في سنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء فيما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم - - أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة –: (٦/٣٥١-٣٥٢) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (٢/١٣٢٨) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –: (٤٥٦) ، والمسند: (٣/٥، ١٩، ٤٤، ٤٧، ٥٠، ٥٣، ٨٤، ٨٧، ٩٢) – ورواه الطبراني كما في الأوسط ومجمع الزوائد: (٧/٢٦٥) ، وأبو يعلى، والبيهقي كما في جمع الجوامع: (١/٩٣٩) ، وانظر رواية البيهقي في شعب الإيمان في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: (٢/٣٠٥) ، وروى تلك الرواية أيضاً ابن النجار في الجامع الكبير: (١/٣٩٣) .
وقد قام سفيان الثوري – عليه رحمة الله تعالى – بالمسلكين، فجهر بالحق المبين، وعرض نفسه لبطش الظالمين، فحفظه رب العالمين، من كيدهم الأثيم، ثم توارى عنهم واعتزل، حتى جاءه الأجل – عليه رحمة الله عز وجل –
حاشية: وبهذا يجعل الجمع بين مقارعته للجائرين، وبين قوله: "إذا انبثق البحر فمن يسكره" فقد جهر بالحق في وجه المنصور، واستمر على التحذير فيما يجري منه ومن عماله من قصور، حتى إن المنصور حين هرج إلى مكة أرسل الخشابين، وقال لهم: إن رأيتم سفيان فاصلبوه فنصبوا الخشب ونادوا عليه في المسجد الحرام، وكان رأسه في حجر الفضيل بن عياش ورجلاه في حجر ابن عيينة، فقالوا له: يا أبا عبد الله اتق الله، ولا تشمت بنا الأعداء، فقام وتقدم إلى أستار الكعبة ثم أخذها وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر المنصور فمات أبو جعفر قبل أن يدخل الكعبة، وكان مسلك سفيان مع المهدي كمسلكه مع أبيه، فأمر بقتله أيضاً فخرج سفيان إلى البصرة واعتزل ولم يزل بها حتى أدركه الأجل، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: (١/٢٠٦) مات في البصرة في الاختفاء من المهدي، فإنه كان قوالاً بالحق شديد الإنكار، وانظر ترجمته المباركة، ومواقفه مع المنصور والمهدي في تاريخ بغداد: (٩/١٥١-١٧٤) ، وحلية الأولياء: (٦/٣٥٦-٣٩٣، ٧/٣-١٤٤) ، وصفة الصفوة: (٣/١٤٧-١٥٢) ، والبداية والنهاية: (١٠/١٣٤) ، وتهذيب التهذيب: (٤/١١١-١١٥) .
وانظر مجمع الزوائد – كتاب الفتن –: (٧/٢٧٢-٢٧٥) ففيه عدة تراجم يشير بها إلى ذلك، باب الكلام بالحق عند الحكام، باب فيمن خاف فأنكر بقلبه ومن تكلم – باب من خشي من ضرر على غيره وعلى نفسه، ودللت على أن ذلك هو فريضة الله عليه في ذلك الحال ثم بينت بالأدلة اشتراك أهل الخير والكمال بالعذاب مع الضلال إذا لم يزل الضلال فما وجه التوفيق بين الأمرين في المآل؟.
والجواب عن ذلك أخي الكريم: إن نزول العذاب على الصالحين في ذلك الحين من باب المصائب التي يثابون عليها عند رب العالمين، لأنهم قاموا بفريضة الله عليهم في مقارعة الفاسقين لكنهم لبقائهم في دار الظالمين عذبوا بما عذب الله به المجرمين، لما تقدم من الأدلة المصرحة بعموم العذاب لمن هو في تلك الدار من الساكنين، فالمكان الذي يعمل فيه بالعصيان مهدد بعقوبة ذي العزة والانتقام، وإذا نزل بطش الرحمن عم من في ذلك المكان، فالبلاء عام عام ولذلك حذرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – من حضور الأمكنة التي يظن فيها وقوع الإجرام ففي مسند الإمام أحمد ومسند البزار بسند حسن عن خرشة بن الحارث – رضي الله تعالى عنه – وكان من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا يشهدن أحدكم قتيلاً، لعله أن يكون قتل ظلماً، فيصيبه السخط" ولفظ البزار: "فتنزل السخطة عليهم فتصيبه معهم" وروى الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا تقفن عند رجل يقتل مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه، ولا تقفن عند رجل يضرب مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه".
حاشية: انظر الحديث الأول في المسند: (٤/١٦٧) ، ومجمع الزوائد: (٧/٣٠٠) ، وفيه: فيه ابن لهيعة وفيه ضعف وهو حسن الحديث، وقد أورد ابن الأثير في أسد الغابة: (٢/١٢٧) ، وابن حجر في الإصابة: (١/٤٢٣) الحديث في ترجمته.
وانظر الحديث الثاني في تخريج أحاديث الإحياء: (٢/٣٠٥) ، وفيه: رواه الطبراني بسند ضعيف والبيهقي في شعب الإيمان بسند حسن.
فإذا انتشرت الردايا عمت البلايا، قال الشيخ الصالح بلال بن سعد – رحمه الله تعالى – إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أظهرت فلم تغير ضرت العامة.
حاشية: كما في الزهد والرقاق لابن المبارك: (٤٧٦) ، والحلية: (٥/٢٢٢) ، وصفوة الصفوة: (٤/٢١٧) والإحياء: (٢/٣٠٨) ورد ذلك عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً في معجم الطبراني الأوسط لكن في إسناده مروان بن سالم الفطاري، وهو متروك كما في مجمع الزوائد: (٧/٢٦٨) .
فإن قيل: فما العمل وكيف تحصل النجاة؟ فالجواب: لا تحصل النجاة في هذه الدار إلا بالهجرة من دار الأشرار، كما هو مسلك الأخبار، في سائر الأعصار والأمصار، قال الإمام القرطبي في تفسيره: (٧/٣٩٢) ، وفي التذكرة: (٦٢٩) قال علماؤنا: الفتنة إذا علمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصرة السبت حين هجروا العاصين، وقالوا: لا نساكنكم وبهذا قال السلف – رضي الله تعالى عنهم – روى ابن وهب عن مالك – رحمهم الله جميعاً – أنه قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها ١٠هـ.
وقصة أصحاب السبت ينبغي تدبرها في هذا الوقت، لما بين حالنا وحالهم من التشابه التام والسعيد من اعتبر بغيره من الأنام، ونسأل الله الكريم حسن الختام، وإليك البيان في عدة نقاط حسان:
١- أمر الله اليهود بتعظيم يوم الجمعة، فاختاروا السبت مكانه متعللين بأن الله لم يخلق فيه شيئاً، لأنه بدأ الخلق يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، وهذا من تنطعهم وضلالهم وتقديم آراءهم على شرع ربهم، وقد سار النصارى على نهجهم في المعاندة والمحادة فاختاروا بوم الأحد، لان الله بدأ الخلق فيه، فألزم الله كلا بما اختار، ووضع عليهم في ذلك الإصر والأغلال فحرم ذو العزة والجلال على اليهود الأرذال الصيد يوم السبت وجعل الأسماك تظهر بكثرة يوم السبت على الماء رافعة رؤوسها، ثم تختفي بقية الأيام امتحاناً من الله لهم، جزاء لما صدر عنهم قال الله – جل وعلا –: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الأعراف١٦٣، وقال – جل وعز –: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} النحل١٢٤، قال مجاهد كما في تفسيره: (١/٣٥٥) ، وتفسير الطبري: (١٤/١٣٠) اتبعوه – يعني يوم السبت – وتركوا الجمعة، وروى ابن أبي حاتم عن السدي كما في فتح الباري: (٢/٣٥٥) ، والدر: (٤/١٣٤) ، قال: إن اله – عز وجل – فرض على اليهود الجمعة، فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئاً فاجعل لنا السبت، فلما جعل عليهم السبت استحلوا فيه ما حرم عليهم.
وقد أشار نبينا – صلى الله عليه وسلم – لاختلاف من قبلنا في يوم الجمعة، وهدايتنا له، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع فاليهود غداً والنصارى بعد غد"، وفي لفظ لمسلم وغيره عن أبي هريرة وحذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قالا: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن والآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، والمقضي لهم قبل الخلائق" وفي رواية البزار بسند رجاله رجال الصحيح: "المغفور لهم قبل الخلائق".
حاشية: انظر الرواية الأولى في صحيح البخاري – كتاب الجمعة – باب فرض الجمعة –: (٢/٣٥٣) ، وباب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟: (٢/٣٨٢) ، وفي كتاب أحاديث الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – باب: "٥٤": (٦/٥١٥) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الجمعة – باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة: (٢/٥٨٥-٥٨٦) ، وسنن النسائي – كتاب الجمعة – باب إيجاب الجمعة: (٣/٧١) ، وصحيح ابن خزيمة – كتاب الجمعة – باب ذكر فرض الجمعة: (٣/١٠٩-١١٠) ، وشرح السنة – كتاب الجمعة – باب فرض الجمعة: (٤/٢٠٠-٢٠١) ، ومعالم التنزيل: (٤/١٢٤) ، والأم: (١/١٨٨) ، والمسند: (٢/٢٤٣-٢٤٩، ٢٧٤، ٣١٢، ٣٤١-٣٤٢، ٥٠٢-٥٠٣) ، وتاريخ بغداد: (٢/٢٥٧) .
ووردت الجملة الأولى من الحديث الشريف: "نحن الآخرون والسابقون يوم القيامة" في صحيح البخاري – كتاب الوضوء – باب البول في الماء الدائم: (١/٣٤٥) ، وكتاب الجهاد – باب يقاتل من رواء الإمام ويتقي به،: (٦/١١٦) ، وأول كتاب الإيمان والنذور: (١١/٥١٧) ، وكتاب الديات – باب من أخذ حقه واقتضى دون السلطان: (١٢/٢١٦) ، وكتاب التعبير – باب النفخ في المنام –: (١٢/٤٢٣) ، وكتاب التوحيد – باب قول الله تعالى –: "يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ": (١٣/٤٦٤) بشرح ابن حجر في جميع ما تقدم، والمسند: (٢/٤٧٣، ٥٠٤) ، وتاريخ بغداد: (٢/١٦٠) ، ونحوه عند ابن ماجه – كتاب الزهد – باب صفة أمة محمد – صلى الله عليه وسلم –: (٢/١٤٣٤) لكن من رواية ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظ: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون".
وانظر رواية الحديث الثانية في صحيح مسلم – المكان المتقدم – وسنن النسائي – المكان المتقدم أيضاً – وسنن ابن ماجه – كتاب إقامة الصلاة – باب في فرض الجمعة: (١/٣٤٤) .
واعلم أن أول من جمع أهل المدينة قبل هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – إليهم، وتولي الصلاة بهم وتذكيرهم: أسعد بن زرارة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مصنف عبد الرزاق: (٣/١٥٩) – كتاب الجمعة – باب أول من جمع عن ابن سيرين مرسلاً، وصحح الحافظ في الفتح: (٢/٣٥٥) إسناده، وفي المستدرك – كتاب الجمعة: (١/٢٨٠) بسند صحيح على شرط مسلم قاله الحاكم وأقره الذهبي عن عبد الرحمن بن كعب قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة، واستغفر له فمكثت كثيراً لا يسمع أذان الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت: يا أبت أرأيت استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال: أي بني كان أول من جمع بنا في المدينة، وفي كتاب الثقات لابن حبان: أول جمعة جمعت بالمدينة جمعها أبو أمامة أسعد بن زرارة – رضي الله تعالى عنه – ١٠هـ قال الحافظ في الفتح: (٢/٣٥٥) مرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد ولا يمنع أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، ثم قال: وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، وقيل في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإمام إنما خلق فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله – تبارك وتعالى – أكمل فيه الموجودات، وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة ١٠هـ.
٢- لما فرض الله – جل وعلا – عليهم ما اختاروه، وامتحنهم بما امتحنهم به ليعلم هل يطيعوه، تجاوزا الحرمات، وارتكبوا الموبقات، فصاد فريق منهم الأسماك في يوم الإسبات، ولما لم يعاجلوا بالعقوبات، تبعهم على مسلكهم جم غفير من أهل العقول المنكوسات، ولكيفية اصطيادهم حالتان، كل منهما من وساوس الشيطان:
الحالة الأولى:
عن طريق الاحتيال الماكر، دون الاصطياد المباشر، وذلك بعمل أحواض وبرك قرب البحر فإذا دخل إليها السمك منعوها من العودة إلى البحر عن طريق وضع حواجز بين الأحواض والبرك وبين البحر، فإذا جاء يوم الأحد أخرجوها من تلك الأحواض وأكلوها، ومثل هذا أيضاً وضع مصائد وشباك للسمك يوم السبت فإذا دخلت تلك المصائد والشباك لا تستطيع الخروج منها، والعودة إلى البحر، فيصيدوها يوم الأحد ويدخل في هذا أيضاً ما فعله بعضهم من أخذ السمك وخرم أنفه وربطه بحبل ضرب له وتد في الساحل ثم يلقي السمك في الماء فإذا جاء يوم الأحد شد الحبل واخرج السمك، وكل هذا نقل عنهم، وجرى منهم، وهذا من باب التحايل على ما حرم الله – جل وعلا – ولليهود فيه مهارة ولهم عليه جسارة، وعاقبة ذلك الخذلان والخسارة، وقد حذرنا نبينا الأمين – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - من ذلك المسلك الأثيم فقال – فداه أبي وأمي –: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
حاشية: أخرجه الإمام ابن بطة – عليه رحمة الله تعالى – في كتابه: "إبطال الحيل": (٤٧) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مرفوعاً، حكم الشيخ ابن تيمية على إسناده بأنه حسن كما في مجموع الفتاوى: (٢٩/٢٩) ، وانظر اعتماده للحديث في كتابه: "إبطال التحليل": (٢٤) ، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: (٢/٢٥٧) إسناده جيد: ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيراً، ومثل ذلك قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان: (١/٣٤٨) ، وكتب سبعين ومائة صفحة في الحيل من: (١/٣٣٨-٣٩١، ٢/٣-١٢١، وختم الكلام بقوله لعلك تقول: قد أطلت الكلام في هذا الفصل جداً، وقد كان يكفى الإشارة إليه، فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجد فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين، أهل المكر والمخادعة، والاحتيال في العلميات، وأهل التحريف السفسطة والقرمطة في العلميات، وكل فساد في الدين، بل في الدنيا فمنشؤه من هاتين الطائفتين، وانظر الرسالة التدمرية: (١٣) ، ففيه الحكم على الزائغين بأنهم يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات، وفي: (٦٧) نقل عن الإمام أحمد – عليهما رحمة الله تعالى – أنه قال: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في الأدلة السمعية والقياس في الأدلة العقلية ١٠هـ ومر هذا موضحاً سابقاً.
الحالة الثانية:
عن طريق التأويل الجائر للاصطياد المباشر حيث سول لهم الشيطان أن المراد من النهي: النهي عن الأكل منها يوم السبت، لا النهي عن اصطيادها ثم أكلها في غيره من الأيام، وهذا من باب تحريف النصوص، وهو مسلك المجرمين اللصوص، وتأويل النص بما لا يدل عليه، لا يقل سوءاً من جحده والاعتراض عليه، بل ذلك أشنع وأفظع، حيث إن المؤول مع زيغه يزعم أنه مطيع لربه، ورحمة الله على من قال كما في فتح الباري: (١٠/٦٦) :

وأشربها وأزعمها حراماً ... وأرجو عفو رب ذي امتنانج
ويشربها ويزعمها حلالاً ... وتلك على المسيء خطيئتان

ولما قرر الإمام الألوسي في روح المعاني تحريم المزامير والأغاني ختم الكلام بكلام نوراني فقال: (٢١/٧٩) ثم إنك إذا ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو سماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له ... إلخ.
٣- فلما جرى من أولئك ما جرى من الاعتداء على شريعة الله المطهرة، انقسم بنو إسرائيل نحو ذلك المسلك الوبيل ثلاثة أقسام على القول المعتمد من الأقاويل:
أ) قسم شارك في ذلك العمل الرذيل، وارتكب معصية الله الجليل.
ب) قسم عارض ذلك العمل، ثم فارق من اقترفه غضباً لله – عز وجل –.
جـ) قسم أعرض عن فعل الموبقات، وفارق من تلبس بالقاذورات، لكنه لم يعارضهم فيما قاموا به من ضلالات، لتيقنه عدم انتفاعهم بالإرشادات.
وإلى الأصناف الثلاثة أشار رب الأرض والسموات بقوله: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الأعراف١٦٤.
وما قيل: إن بني إسرائيل انقسموا قسمين نحو ذلك العمل الوبيل، فهو قول هزيل، وإليك الإيضاح بالبيان الجليل:
نقل عن الكلبي كما في تفسير الطبري: (٩/٦٧) ، وغيره، قال: هما فرقتان الفرقة التي وعظت والتي قالت لم توعظون قوماً الله مهلكهم هي الفرقة الثانية وهي الموعوظة، لكن رد ذلك البغوي في معالم التنزيل: (٢/٣٠٣) ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (٧/٣٠٧) ، وغيرهما، وسبب الرد لو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف بدل الهاء.
ونقل في بيان انقسام بني إسرائيل إلى قسمين في ذلك الزمان، تعليل آخر يعود لما قدمته من البيان ففي تفسير الطبري: (٩/٦٣) ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما في الدر: (٣/١٣٧) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: هي قرية على شاطئ البحر، يقال لها: أيلة، حرم الله – عز وجل – عليهم الحيتان يوم سبتهم فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً على ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها، فمكثوا بذلك ما شاء الله – تبارك وتعالى –، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة، وقالوا: تأخذونها، وقد حرمها الله – عز وجل – عليكم يوم سبتكم، فلم يزدادوا إلا غياً وعتواً، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة: تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب،: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ"، وكانوا أشد غضباً لله – عز وجل – من الطائفة الأخرى، فقالوا: " قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، وكل قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله – جل وعلا – نجت الطائفتان اللتان قالوا: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ" والذين قالوا: " مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، وأهلك الله – جل وعلا – أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير ١هـ.
فهذا القول يرجع للتقسيم الذي فصلته، فالناهون قسمان، قسم استمر على نهيه ونكيره على المخالفين لرب العالمين، ثم فارقهم خشية أن يحل به بطش أحكم الحاكمين، وقسم أعرض عن النهي عن المنكر عندما لاح لهم أن المعتدين من أهل سقر، وليس فيهم من يعتبر ويتذكر، ثم فارقوا الظالمين الظغام غضباً لذي العزة والانتقام، فعاد التقسيم إلى ثلاثة أقسام، قسم متلبس بالعصيان، وقسم ناء عن الآثام، وقسم ساكت باللسان، منكر بالجنان، بعد أن يئس من هداية أهل الطغيان.
٤- وبعد أن اعتدى الظالمون من بني إسرائيل على حرمات الله الجليل، أنزل الله عليهم عذابه الوبيل، فمسخهم قردة وخنازير، فنجا من أعرض عن فعل تلك الأوزار، وفارق ديار أهل البوار، عارضهم أو لم يعارضهم، نهاهم أو لم ينهاهم ليأسه منهم، وهلك من فعل فعلهم، أو لم يفارق ديارهم وإن لم يفعل أوزارهم، لكن الأدلة المنقولة عن سلفنا الطيبين دلت على مفارقة المؤمنين في ذلك الحين ديار المعتدين، وبهذا يجتمع شمل الأقوال في هذا المقام، فقد نقل عن بعض سلفنا الكرام كابن عباس – عليهم جميعا رضوان ربنا الرحمن – توقف في أول الأمر في مصير الذين لم ينهوا عن الآثام وقالوا لناهين: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، ونقل عنه أيضاً الحكم بهلاكهم كأهل العصيان، ولعل ذلك منه قبل أن يتبين له مفارقتهم للمعتدين، فلما تبين له ذلك قال بنجاتهم مع الناهين عن معصية رب العالمين، وإليك الروايات الواردة عنه بذلك يا أخي الكريم.
روى ابن جرير في تفسير (٩/٦٦-٦٧) ، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ كما في الدر: (٣/١٣٧) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – قال: ابتدعوا السبت، فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرعاً، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتاً فخرم أنفه، ثم ضرب له وتداً في الساحل، وربطه، وتركه في الماء، فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ن ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أخد إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق، وفعل علانية، قال: فقالت طائفة للذين ينهون: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} الأعراف١٦٥-١٦٦، قال ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: كانوا أثلاثاً، ثلث نهوا، وثلث قالوا: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ"، وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهو وهلك سائرهم، فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم وقد باتوا من ليلتهم وغلقوا عليهم دورهم فجعلوا يقولون: إن للناس لشأناً فانظروا ما شأنهم، فاطلعوا في دورهم فإذا القوم قد مسخوا في ديارهم قدرة يعرفون الرجل بعينه، وإنه لقرد، ويعرفون المرأة بعينها وإنها لقردة، قال الله – جل وعلا –: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} البقرة٦٥ -٦٦.
فهذه الرواية تدل على كون الساكتين عن الإنكار على المعتدين كانوا من جملة المعذبين.
وبذلك عنون الإمام ابن جرير في تفسيره، فقال: وقال آخرون: بل الفرقة التي قالت: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ" كانت من الفرقة الهالكة، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: (٢/٢٥٨) القول الثاني أن الساكتين كانوا من الهالكين، ثم بعد أن سرد الرواية المتقدمة قال: وهذا إسناد جيد عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين له حالهم بعد ذلك.
وورد عنه ما يدل على الوقف في أمر الساكتين ففي تفسير الطبري: (٩/٦٧) ، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ كما في الدر: (٣/١٣٨) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: نجا الناهون، وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين، واخرج عنه عبد بن حميد وأبو الشيخ كما في الدر: (٣/١٣٨) ، قال: لأن أكون علمت أن القوم الذين قالوا: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ" نجوا مع الذين نهوا عن السوء أحب إليّ من جمر النعيم، ولكني أخاف أن تكون العقوبة نزلت بهم جميعاً.
وهذا التوقف كان في بداية الأمر من ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قبل أن يتبين له مباينة الساكتين للمعتدين، وانفصالهم عنهم في ذلك الحين، كما في تفسير الطبري: (١/٢٦١، ٦٤-٦٥، والحاكم في المستدرك – كتاب التفسير –: (٢/٣٢٣) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى: (١٠/٩٢-٩٣) ، وأحكام القرآن للشافعي: (٢/١٧٣-١٧٧) ، وعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، كما في الدر: (١٠/٧٥، ٣/١٣٧) عن عكرمة، قال: جئت ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – يوماً وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، قال: وإذا هو في سورة الأعراف، قال: تعرف أيلة، قلت: نعم، قال: فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها المخاض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم، فكانوا كذلك برهة من الدهر ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام، فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة منهم: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها في يوم السبت، وكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها واعتزلت طائفة ذات اليمين ونهت، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت، وقال الأيمنون: ويلكم لا تتعرضوا لعقوبة الله – عز وجل -، وقال الأيسرون: " لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، قال الأيمنون: " مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم، فمضوا على الخطيئة، فقال الأيمنون: قد فعلتم يا أعداء الله، والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله – عز وجل – بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب، فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا، فوضعوا سلماً، وأعلوا سور المدينة رجلاً، فالتفت إليهم، فقال: أي عباد الله قردة والله تعاوى لها أذناب، قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت: القردة أنسابها من الإنس ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فتقول لهم: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها: نعم، ثم قرأ ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما -: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} الأعراف١٦٥، قال: فأرى اليهود الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها فلا نقول فيها، قال، قلت: أي جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم، وقالوا: "لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، قال: فأمر بي فكسيت ثوبين غليظين، وفي رواية للطبري: (٩/٦٦) ، وعبد بن حميد، وابن المنذر كما في الدر: (٣/١٣٨) عن عكرمة قال: قرأ ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – هذه الآية: "لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً"، فقال: لا أدري أنجا القوم أو هلكوا؟ فما زلت أبصره حتى عرف أنهم نجوا، وكساني حلة.
ففي هذه الرواية التصريح بنجاة الساكتين، لأنهم كرهوا اعتداء المسرفين وخالفوهم في ديارهم ذلك الحين، ولذلك لم يدر الخيار بما حل بالأشرار من عذاب العزيز الجبار حتى تسلقوا عليهم الجدار، ضحوة النهار، ولو كانوا معهم لعلموا بما صار إليه حالهم، وصفوة المقال: أن جميع الأخيار اعتزلوا، لكن قسم منهم أنكروا وقسم سكتوا، وجميع الروايات المصرحة بنجاة من حصلت له النجاة فيها التنصيص على اعتزال المؤمنين آنذاك لأهل الضلالات، روى الطبري في تفسيره: (٩/٦٧) عن أبي صالح: وضعت اليهود يوم السبت، وسبتوه على أنفسهم، فسبته الله عليهم ولم يكن السبت قبل ذلك، فوكده الله عليهم، وابتلاهم فيه بالحيتان، فجعلت تشرع يوم السبت فيتقون أن يصيبوا منها، حتى قال رجل منهم: والله ما السبت بيوم وكده الله علينا، ونحن وكدناه على أنفسنا، فلو تناولت من هذا السمك، فتناول حوتاً من الحيتان، فسمع بذلك جاره فخاف العقوبة فهرب من منزله، فلما مكث ما شاء الله – عز وجل – ولم تصبه عقوبة تناول غيره أيضاً في يوم السبت، فلما لم تصبهم العقوبة كثر من تناول في يوم السبت، واتخذوا يوم السبت وليلة السبت عيداً يشربون فيه الخمور، ويلعبون فيه بالمعازف، فقال لهم خيارهم وصلحاؤهم: ويحكم انتهوا عما تفعلون إن الله مهلككم أو معذبكم عذاباً شديداً، أفلا تعقلون، ولا تعتدوا في السبت، فأبوا فقال خيارهم: نضرب بيننا وبينهم حائطاً، ففعلوا، وكان إذا كان ليلة السبت تأذوا بما يسمعون من أصواتهم وأصوات المعازف حتى إذا كانت الليلة التي مسخوا فيها سكنت أصواتهم أول الليل، فقال خيارهم: ما شأن قومكم قد سكنت أصواتهم الليلة؟ فقال بعضهم: لعل الخمر غلبتهم فناموا، فلما أصبحوا لم يسمعوا لهم حساً، فقال بعضهم لبعض: ما لنا لا نسمع من قومكم حساً؟ فقالوا لرجل: اصعد الحائط، وانظر شأنهم، فصعد الحائط فرآهم يموج بعضهم في بعض قد مسخوا قردة، فقال لقومه: تعالوا فانظروا إلى قومكم ما لقوا، فصعدوا فجعلوا ينظرون إلى الرجل فيتوسمون فيه، فيقولون: أي فلان، أنت فلان، فيومئ بيده إلى صدره، أي: نعم بما كسبت يداي.
وقال عبد الرحيم – ستره رب العالمين –: ما دلت عليه الحادثة المتقدمة في بني إسرائيل، من وجوب مفارقة الصالحين لأهل العمل الرذيل، ليحصل لهم النجاة من الأخذ الوبيل من قبل الرب الكبير، قررته شريعة ربنا الجليل، كما تقدم تقرير هذا بشيء من التفصيل، وقد حكى الحافظ في الفتح: (١٣/٦١) عن ابن أبي حمزة – رحمهم الله جميعاً – أنه جنح إلى أن الذين يقع لهم العذاب في الدنيا إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقاً ولا يرسل الله – جل وعلا – عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب، فقد رده الحافظ بعد حكايته له، وهو حقيق بالرد لأن الله – جل جلاله – يدفع بالأبرار العذاب عن الفجار، ما دام للحق ظهور وانتشار، وهيمنة على الأقطار، فإذا كثر الأشرار نزل بالجميع عذاب العزيز الجبار، ويختلف حكمهم في دار القرار حسب أعمالهم ونياتهم في هذه الدار، ولا ينجو من العذاب العاجل، إلا من فارق ديار أهل الباطل، وقول الإمام القرطبي في تذكرته: (٦٢٨-٦٢٩) على هذا يتنزل، ونص كلامه: إذا كره الصالحون ما صنع المفسدون، وأخلصوا كراهيتهم لله – تبارك وتعالى – وتبرؤوا من ذلك حسب ما يلزمهم، ويجب لله – عز وجل – عليهم غير معتدين سلموا ١هـ وهذا محمول قطعاً على الهجرة، من ديار الظالمين، إذا لم تزل معصية رب العالمين، لأن ذلك دليل الإخلاص في الكراهية، والقيام بما يقتضيه التبرؤ التام، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصة أصحاب السبت حين هجروا العاصين، وقالوا: لا نساكنكم، وبهذا قال السلف – رضي الله تعالى عنهم – ١٠هـ.
وبذلك تعلم أن ما نسبه ابن حجر للإمام القرطبي في تذكرته من أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، فيه نظر، فقد علمت كلامه الدال على تقييد النجاة بمفارقة دار الضلال، وما أجل ما قاله الحافظ في الفتح: (١٣/٦١) في بيان ما يستفاد من حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقد تقدم: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم" ويستفاد من الحديث: مشروعية الهرب من الكفار، ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرضى بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم وسيأتي لهذا مزيد بيان عبد المبحث الثالث في هذه المسألة العظيمة الشأن.
٥- لما فشا في بني إسرائيل الاعتداء على حرمات الله الجليل، عاقبهم ربنا القدير بالأخذ الوبيل، فجعل منهم القردة والخنازير، وأشار إلى ذلك في ثلاث سورة من سور التنزيل، سورة البقرة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} البقرة٦٥-٦٦، وفي سورة المائدة: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} المائدة٦٠، وفي سورة الأعراف: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} الأعراف١٦٣-١٦٦، وكان من مسخ نحواً من سبعين ألفاً كما في زاد المسير: (١/٩٥) ، والجامع لأحكام القرآن: (٧/٣٠٧) ، ونقل عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في تفسير الطبري: (٩/٦٩) ، وقتادة كما في تفسير الطبري: (١/٢٦٢) ، وعبد بن حميد كما في الدر: (١/٧٥) أنهما قالا: صار شباب القوم قردة، وصارت المشيخة خنازير ١٠هـ وقد وقع ذلك المسخ حقيقة على الأبدان، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام، ولم يعقبوا بعد أن عذبوا عذاب الهوان، ويتعلق بمسخهم مسألتان، ينبغي بيان الحق فيما بالأدلة القوية الحسان:
المسألة الأولى:
ادعى مجاهد بن جبر – عليه رحمة الله تعالى – أن المسخ وقع على قلوب بني إسرائيل، ولم تمسخ أبدانهم قردة، وخنازير كما في تفسيره: (١/٧٧-٧٨) ، وتفسير ابن جرير: (١/٢٦٣) ، وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في الدر: (١/٧٥) ، وإسناد ذلك إلى مجاهد جيد كما في تفسير ابن كثير: (١/١٠٥) فالقول ثابت عنه، حاصل المعنى فيه أن المسخ معنوي وليس بحقيقي، وما ذلك إلا من باب ضرب المثل لهم، كما مثلهم بالحمار يحمل أسفاراً في قول الله – جل وعلا –: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الجمعة٥.
وقد حكى ذلك عن مجاهد ولم يرده أبو السعود في إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: (١/١١٠) ، والشوكاني في فتح القدير: (١/٩٦) ، مع أنه لم يذكر إلا القول بمسخهم حقيقة في تفسير سورة الأعراف: (٢/٢٥٧-٢٥٩) ، وكذلك حكاه القاسمي في محاسن التأويل: (١/١٥٠، ٧/٢٨٩٠) ، ولم يرده، بل يفهم من كلامه الميل إليه، ونصر ذلك القول محمد رشيد رضا وشيخه محمد عبده في تفسير المنار: (١/٣٤٤) كما هي عادتهما في مثل هذا، ونص كلامهما: روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ما مسخت صورهم، ولكن مسخت قلوبهم، فمثلوا كما مثلوا بالحمار في قوله – عز وجل –: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} الجمعة٥، ومثل قوله – جل وعلا –: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} المائدة٦٠، والخسوء في قوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} البقرة٦٥، وهو الطرد والصغار، والأمر للتكوين أي: فكانوا بحسب سنة الله – تبارك وتعالى – في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس، والمعنى: أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات، بلا خجل ولا حياء، حتى صار كرام الناس يحتقرونهم، ولا يرونهم أهلاً لمجالستهم ومعاملتهم، وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى: " كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ " أن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصاً فيه، ولم يبق إلا النقل، ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله – جل وعلا – لا يمسخ كل عاص فيخرجه من نوع الإنسان إذ ليس ذلك من سننه في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله – تبارك وتعالى – في الذين خلوا أن من يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له ينزل عن مرتبة الإنسان، ويلتحق بعجماوات الحيوان، وسنة الله واحدة فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية ١٠هـ.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ولوالديه وللمسلمين –: لا يرتاب عاقل في بطلان قول مجاهد إمام التابعين، وذلك معدود من زلله عند الصالحين، ومن تبع زلل العلماء، فهو من الضالين، قال سليمان التيمي شيخ المسلمين – عليه رحمة رب العالمين –: لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
حاشية: انظر نسبة ذلك إليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (١٥٩) ، وجامع بيان العلم وفضله: (٢/٩١، وعقب ابن عبد البر على قوله بقوله: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً، وانظره في الحلية: (٣/٣٢، وتذكرة الحفاظ: (١/١٥١، وفي الكتابين الأخيرين ترجمة حسنة له، فانظرها، وقد وصفه الذهبي في التذكرة بقوله: شيخ الإسلام ... قال شعبة ما رأيت أحداً أصدق من سليمان التيمي كان إذا حدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تغير لونه، وقال ولده معتمر: مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصلي صلاة الفجر بوضوء العشاء، قلت: القائل الذهبي –: كان عابد البصرة وعالمها، وكان يقول كما في الحلية: الحسنة نور في القلب وقوة في العمل، والسيئة ظلمة في القلب وضعف في العمل والشتاء غنيمة العبد، وإن الرجل ليذئب الذئب فيصبح وعليه مذلته، روى عنه أهل الكتاب الستة، وتوفي سنة ثلاث وأربعين مائة – عليه رحمة الله تعالى – وانظر ترجمته المباركة أيضاً في كتاب تهذيب التهذيب: (٤/٢٠١-٢٠٧) ، وصفوة الصفوة: (٣/٢٩٦-٣٠٠) ، وشذرات الذهب: (١/٢١٢) ، والمعرفة والتاريخ: (٢/٢٦٨) ، وفيه: كان يسبح في كل سجدة وركعة سبعين تسبيحة.
وروى مثله عن معمر وإبراهيم بن أدهم – عليهم رحمة الله وتعالى – كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (١٥٩-١٦٠) ، ونص كلام إبراهيم بن أدهم: من حمل شاذ العلماء حمل شر كبيراً، ولعله لم يبلغ مجاهداً النقل الصحيح عن بنينا – صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي بيانه عما قريب، وأما قلسفة محمد رشيد رضا، وشيخه فهي لا تعدوا عن كونها صرير باب أو طنين ذباب، وإليك نقض ما حبكه من الشبه والارتياب، وإثبات الصواب بفضل الخطاب.
دل على وقوع المسخ على الأبدان للمعتدين من بني إسرائيل في ذلك الزمان، خمسة أدلة حسان، فتدبرها يا أخا الإسلام:
الدليل الأول:
ثبوت ذلك عن نبينا – عليه الصلاة والسلام – ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رجل يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك".
انظر صحيح مسلم بشرح النووي: (١٦/٢١٤) – كتاب القدر – باب بيان الآجال والأرزاق لا تزيد ولا تنقص –، والمسند: (١/٤١٣، ٤٣٣، ٤٥٥، ٤٦٦) ، وورد فيه بنحوه في: (١/٣٩٠، ٣٩٥، ٣٩٧، ٤٢١) ، ورواه الحميدي: (١/٦٨-٦٩) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار: (٤/٩٩١) ، ورواه أبو يعلى والطبراني عن أمنا أم سلمة – رضي الله تعالى عنها – كما في مجمع الزوائد: (٨/١١-١٢) كتاب الفتن – باب ما جاء في المسخ، والقذف وإرسال الشياطين والصواعق – وفيه: فيه ليت بن أبي سليم مدلس، وبقية رجالهما رجال الصحيح، ورواه أيضاً الطبراني في الأوسط عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما – كما في المجمع: (٨/١١-١٢) ، وفيه: فيه مسلمة بن علي وهو ضعيف، والرواية المتقدمة عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – تشهد لهاتين الروايتين فاعلم، وانظر رواية أبي يعلى أيضاً في المطالب العالية: (٣/٣٣٤) – كتاب التفسير – سورة الأعراف.
والحديث صحيح، وهو نص صريح في وقوع المسخ على الأبدان، لكن القردة والخنازير الموجودة الآن، ليست من نسل ما مسخ في ذلك الزمان لأن الله – عز وجل – لا يجعل لما مسخ نسلاً، بل يستأصلهم، ويقطع دابرهم.
الدليل الثاني:
ظاهر الآيات الثلاث في السور الثلاثة تدل على أن المسخ وقع حقيقة على الأبدان، وترك الظواهر لا يجوز عن أهل الإيمان، ففي ذلك فتح لباب الزندقة الباطنية للتلاعب بالنصوص الشرعية، فلو لم يدل على كون المسخ حقيقة إلا ظواهر النصوص لكفى ذلك دليلاً عند طيبي النفوس، وقد كرر شيخنا المبارك – عليه رحمة ربنا القدوس – في أضواء البيان، التنويه بمنزلة هذا الدليل عند علماء الإسلام ففي: (٤/٦٧٢-٦٧٣) مثلاً يقول: والقاعدة المقررة عند العلماء أن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن ظاهرها المتبادر منها إلا بدليل الرجوع إليه ١٠هـ وانظر إيضاح هذا بالأدلة القوية، وما يترتب على مخالفته من بلايا ردية في القاعدة الثالثة من الرسالة التدمرية: (٤٧-٥١) .
الدليل الثالث:
القول بوقوع المسخ على الأبدان هو قول جمهور العلماء الكرام، ولم ينقل في هذا خلاف عن المتقدمين إلا ما حكي عن مجاهد – عليهم جميعاً رحمة رب العالمين – وهو معذور لعدم وقوفه على الدليل المبرور، وظنه أن ذلك من باب المثل لأهل الثبور، وبالتالي فقوله شاذ مهجور، رده الأئمة الفحول قال الإمام ابن جرير – عليه رحمة ربنا الكبير في تفسيره (١/٢٦٣) : وهذا القول الذي قاله مجاهد قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله – تبارك وتعالى – مخالف، وذلك أن الله – تبارك وتعالى – أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر – جل وعلا – أنهم قالوا لنبيهم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام –: {أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً} النساء١٥٣، وأن الله – تعالى ذكره – أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة، فقالوا لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} المائدة٢٤، فابتلاهم بالتيه، فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر – جل ولعا – أنه جعل منهم قردة وخنازير، وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله – تبارك وتعالى – عن بني إسرائيل أنه كان منهم من الخلاف على أنبيائهم والنكال والعقوبات التي أحلها الله – عز وجل – بهم، ومن أنكر شيئاً من ذلك، وأقر بآخر منه سئل البرهان على قوله، وعورض فيما أنكر من ذلك بما أقر به، ثم يسال الفرق بين خبر مستفيض، أو أثر صحيح، هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه، وكفى دليلاً في فساد قول إجماعها على تخطئته ١هـ.
وفي كلام الإمام ابن جرير تقرير للدليل الثاني والثالث فتدبر، وتبعه على كلامه الإمام الألوسي في روح المعاني: (١/٢٨٣) ، وعبارته: وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة، وعلى ذلك جمهور المفسرين، وهو الصحيح ١٠هـ، وقال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير (١/٩٥) : وقول مجاهد بعيد، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: (١/١٠٥) هذا قول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره ١٠هـ وعلى رد قول مجاهد، وتقرير كون المسخ وقع حقيقة على الأبدان سار المفسرون الكرام، انظر معاني القرآن للفراء: (١/٤٣) ومعاني القرآن للزجاج: (١/٤٢٧) ، ومعالم التنزيل: (١/٦٩) ، ومفاتيح الغيب: (٣/١١١) ، وأحكام القرآن لابن العربي: (٢/٧٩٨) ، والجامع لأحكام القرآن: (١/٤٤١) ، ولباب التأويل: (١/٦٩) ، والبحر المحيط: (١/٣٤٦) والجواهر الحسان: (١/٧٥) ، والتسهيل لعلوم التنزيل: (١/٥٠، ٢/٥٣) ، والسراج المنير: (١/٦٧) .
الدليل الرابع:
في مسخ أبدانهم حقيقة موعظة بليغة، وعبرة كبيرة، كيف لا، وقد رأى الناس حلول أشنع العقوبات بمن خالفوا رب الأرض والسموات، ومن لم ير ذلك من المكلفين والمكلفات فقد سمع به في محكم الآيات، وذلك بلا شك مما يدعوا الصنفين من رأى مصير المعتدين بعينيه، أو سمعه بأذنيه، لخشية رب الكونين، والحذر من عقوبته التي عاقب بها أهل الشين، وإن لم تعجل العقوبة لبعض أهل الآثام فما يستقبلهم في الآخرة من هوله الولدان، روى ابن جير في تفسيره: (٩/٦٨) عن الحسن البصري، ورواه عنه أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ – رحمهم الله جميعاً – كما في الدر: (٣/١٣٨) أنه تلا ذات يوم: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الأعراف١٦٣، فقال: كان حوتاً حرمه الله – جل وعلا – عليهم في يوم السبت، وأحله لهم فيما سوى ذلك، فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله – عز وجل – عليهم كأنه المخاض لا يمتنع من أحد، ولما رأيت أحداً يكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه – قال: فجعلوا يهمون ويمسكون حتى أخذوه، فأكلوا أوخم أكلة أكلها قوم قط، أثقله خزياً في الدنيا، وأشده عقوبة في الآخرة، وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوا أعظم عند الله – عز وجل – من قتل رجل مؤمن، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت، ولكن الله جعل موعد قوم الساعة، والساعة أدهى وأمر، وصدق إذ يقول: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} البقرة٦٥، وفي تفسير ابن جرير عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما –: (١/٢٦١) ، هذا تحذير لهم من المعصية.
إذا علمت هذا فلن ترتاب أنه من الفاسد البارد السمج المرذول قول محمد رشيد رضا وشيخه محمد عبده، لو صح النقل بمسخهم حقيقة لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة.....
هذا عدل عما في قولهما من جسارة شنيعة، على نصوص الشريعة، رزقنا الله الأدب والإيمان وجعل عقولنا تابعة لهدي الإسلام، وحفظنا من وساوس الشيطان، إنه رحيم رحمن.
الدليل الخامس:
إن وقوع المسخ أمر ممكن وقد ورد به السمع فيجب الإيمان به، وقد دلت الأدلة السمعية على وقوعه في مسر في هذه الأمة فيما سيأتي من الزمان كما وقع لأهل العصيان فيما مضى من الأزمان وفي ذلك تقرير للدليل الرابع لما في هذا الأمر من تحذير عظيم للمفسدين، وموعظة للمتقين، ثبت في أصح الكتب بعد كتاب رب العالمين عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم – يعني الفقير – لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة". وثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي مالك الأشعري – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ليشربن ناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير" وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا تقوم الساعة حتى يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف"، وقال الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالي –: وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة، وهو مقيد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء وشاربي الخمر، وفي بعضها مطلق.
حاشية: انظر الحديث الأول في صحيح البخاري: (١٠/٥١) بشرح ابن حجر – كتاب الأشربة – باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه –، وأخره أيضاً البيهقي في السنن الكبرى – كتاب صلاة الخوف – باب ما ورد في التشديد في لبس الخز –: (٣/٣٧٢) ، ورواه أبو داود مختصراً في كتاب اللباس – باب ما جاء في الخز –: (٤/٣١٩) .
وإياك – أخي الكريم – ثم إياك أن تغتر بدندنة ابن حزم حول هذا الحديث حيث زعم أن الحديث منقطع من جهة أن الإمام البخاري لما رواه قال: قال هشام بن عمار ثم ساق الحديث بسنده، وغاب عن ابن حزم أن هشام بن عمار من شيوخ الإمام البخاري الذين لقيهم وأخذ عنهم، فالحديث متصل، لأن البخاري ليس من أهل التدليس، وإذا روى الراوي عن شيخه الذي لقيه وروى عنه بأي صيغة فذلك محمول على الاتصال والسماع ما لم يكن الراوي مدلساً فلا يعتد بروايته حتى يصرح بالسماع ونحوه، وقد اعتبر العلماء الكرام عزو الراوي لشيخه بصيغة: "قال وأن" ونحوهما كعزوه إليه بصيغة: "عن" قال الشيخ العراقي في ألفيته:

وإنْ يكن أول الإسناد حُذفْ ... مع صيغة الجَزم فتعلقاً عُرفْ
ولو إلى آخره، أما الذي ... لشيخه عَزا بقال فكذى
عَنْعَنَة ٍ كخبَر المعازف ... لا تُصغ ِ لابن حزم ٍ المُخالِف ِ

وقد رد العلماء قاطبة على ابن حزم قوله في تضعيف هذا الحديث، وعدم العمل بموجبه انظر مقدمة ابن الصلاح معها التقييد والإيضاح: (٨٩-٩٠) ، وفتح المغيث: (١/٥٥-٥٧) ، وفتح الباري: (١٠/٥٢-٥٣) ، وإغاثة اللهفان: (١/٢٧٧-٢٧٨) ، وفيه: ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئاً كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع لأن الإمام البخاري لم يصل سنده به، وجواب هذا الوهم من وجوه، ثم ذكر خمسة وجوه فارجع لما قيدته يده المباركة – عليه رحمة الله تعالى – وقال أيضاً في روضة المحبين: (١٣٠) : وأما أبو محمد – أي ابن حزم – فإنه على قدر يبسه وقسوته في التمسك بالظاهر، وإلغائه المعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية، انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة، فوسع هذا الباب، وضيق باب المناسبات والمعاني، والحكم الشرعية جداً، وهو من انحرافه في الطرفين حين رد الحديث الذي رواه البخاري فأبطل سنة صحيحة ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا مطعن فيها بوجه ١هـ ورد الإمام الألوسي عليه في روح المعاني: (٢١/٧٦) لكنه عكر رده وكدره بعبارات قاسية لا أستبيح ذكرها فالله يغفر لنا ولهم جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم.
وانظر الرواية الثانية في سنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب العقوبات –: (٢/١٣٣٣) ، قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان: (٢/٢٧٨) : وهذا إسناد صحيح ١هـ والحديث رواه ابن حبان في صحيحه قريباً من رواية ابن ماجه، وانظر: موارد الظمآن – كتاب الأشربة – باب فيمن يستحل الخمر: (٣٣٦) .
وانظر الحديث الثالث في: موارد الظمآن – كتاب الفتن – باب في المسخ وغيره –: (٤٦٦) ، ورواه الطبراني في المعجم الصغير: (٢/٧٦) ، والأوسط كما في مجمع الزوائد: (٨/١١) – كتاب الفتن – باب في المسخ والقذف وإرسال الشياطين والصواعق – عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولفظه: "يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف في متخذي القيان، وشاربي الخمر ولابسي الحرير"، وقال الهيثمي: وفيه زياد بن أبي زياد الحصاص ابن حبان، وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات ١هـ وقد حكم ابن حجر في التقريب: (١/٢٦٧) على زياد بأنه ضعيف، وقال الذهبي في الميزان: (٢/٨٩) مجمع على ضعفه، ورد على ابن حبان قوله: ربما يهم، ونقل عن ابن الجوزي أنه قال: في الرواة سبعة زياد بن أبي زياد ليس فيهم مجروح سوى الجصاص ١هـ وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين: (٤٥) ليس بثقة، وانظر حاله في المغني في الضعفاء: (١/٢٤٣) ، والجرح والتعديل: (٣/٥٣٢) ، والتاريخ الكبير: (٣/٣٥٥) ، والروايات المتقدمة تشهد له فاعلم.
وانظر كلام الإمام ابن القيم – عليه رحمة الله تعالى – في تظاهر الأحاديث في وقوع المسخ في هذه الأمة في إغاثة اللهفان: (١/٢٨٤) ، وفيه بعد ذلك مباشرة: قال سالم ابن أبي الجعد – عليه رحمة الله تعالى – ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينتظرون أن يخرج إليهم فيطلبون إليه حاجة، فيخرج إليهم وقد مسخ قرداً، أو جنزيراً، وليمزن الرجل على الرجل في حانوته يبيع، فيرجع إليه وقد مسخ قرداً أو جنزيراً، وقال أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه –: لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان على العمل يعملانه، فيمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته، وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشي لشأنه ذلك، حتى يقضي شهوته، وقال عبد الرحمن بن غنم: يوشك أن يقعد اثنان على رحاً يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر، وقال مالك بن دينار: بلغني أن ريحاً تكون في آخر الزمان وظلم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخوا.
وقرر الإمام ابن القيم نحو ذلك في: (١/٣٤٤-٣٤٦) أيضاً فقال: وقد جاء ذكر المسخ في عدة أحاديث ... ثم بعد أن سرد ما تقدم من الآثار وغيرها قال: وقد ساق هذه الأحاديث والآثار ابن أبي الدنيا بأسانيدها في كتاب ذم الملاهي، فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولابد، وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله – جل وعلا – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه، فقلب الله – تبارك وتعالى – صورهم كما قلبوا دينه، والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم، ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره، أو يوم القيامة، وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة، قال شيخنا – يعني: ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة رب البرية –: وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوا مع اعتقاد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حرمها كانوا كفاراً، ولم يكونوا من أمتي، ولو كانوا معترفين بأنها حرام ولأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين يفعلون هذه المعاصي، مع اعترافهم بأنها معصية، ولما قيل فيهم: "يستحلون" فإن المستحيل للشيء هو الذي يفعله معتقداً حله، فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر يعني أنهم يسمونها بغير اسمها كما جاء في الحديث، فيشربون الأنبذة المحرمة ولا يسمونها خمراً. واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة، وهذا لا يحرم، كأصوات الطيور.. وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبد الله ابن المبارك – رحمه الله تعالى –.

وهل أفسدَ الدينَ إلا الملوكج ... وأحبار سَوءْ ورهبانها

ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئاً، بعد أن بلغ الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبين تحريم هذه الأشياء بياناً قاطعاً، مقيماً للحجة ١٠هـ وتقدم في هذا الكتاب المبارك: (...../.....) أبيات عبد الله بن المبارك، كما تقدم في: (...../.....) الإشارة إلى تحريم اتخاذ المعازف وكون اقتنائها ديائة.
قال عبد الرحيم – غفر الله له ذنوبه أجمعين – وإن طالت بنا حياة فسنرى وقوع ذلك في كثير من المكلفين والمكلفات، وما أظنه إلا قريباً، فلا تستبعدوه وخافوا منه واحذروه.
المسألة الثانية:
يتعلق بالقول بمسخهم حقيقة رأيان فاسدان، لابد من أن يتنبه لها طلبة العلم الكرام، لئلا تزل بهم الأقدام، وإليك يا أخي البيان:
الرأي الأول:
يقوم على الظن بعدم انقراض من مسخ واستئصالهم، واحتمال بقائهم وتناسلهم، وقد تبنى هذا القول الإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: (١٧٣) والزجاج في معاني القرآن: (٢/٤٣٧) ، وعبارة الأول: وأنا أظن أن القردة والخنازير هي الممسوخ بأعيانها توالدت، واستدللت على ذلك بقول الله – عز وجل–: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} المائدة٦٠، فدخول الألف واللام في القرود والخنازير يدل على المعرفة، وعلى أنها هي القرود التي نعاين، ولو كان أراد شيئاً انقرض ومضى لقال: وجعل منهم قردة وخنازير، إلا أن يصح حديث أم حبيبة – رضي الله تعالى عنها – في الممسوخ، فيكون كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ومما يزيد في الأدلة على أن القرود هي الممسوخ بأعيانها إجماع الناس على تحريمها بغير كتاب ولا أثر كما أجمعوا على تحريم لحوم الناس بغير كتاب ولا أثر ١٠هـ ونص كلام الزجاج قال قوم: جائز أن تكون هذه القرود المتولدة أصلها منهم، وقال قوم: المسخ لا يبقي ولا يتولد، والجملة: أنا أخبرنا بأنهم جعلوا قردة، والقردة هي التي نعرفها، وهي أكثر شيء في الحيوان شبهاً بابن آدم، والله أ‘لم كيف كان أمرهم بعد كونهم قردة ١٠هـ.
وهذا الرأي باطل قطعاً، وإذا كان الإمام ابن قتيبة قال ما قال عن طريق الظن، وعلق البث في الأمر على حديث أمنا أم حبيبة – رضي الله تعالى عنها – فحديثها قد صح وتقدم أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – في صحيح مسلم وفيه قال: قال رجل يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – لا يهلك قوماً أو يعذب قوماً، فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك"، ولذلك قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير: (١/٣٨٨) فلا يلتفت إلى ظن ابن قتيبة ١هـ، وفي هذا الحجاج رد لكلام الزجاج، والله أعلم كيف كان أمرهم بعد كونهم قردة، فقد أعلمنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – بأمرهم، وأن الله – جل وعلا – قطع دابرهم، واستأصلهم.
وأما ما مال إليه ابن قتيبة من تقوية قوله بكون القردة الموجودة من نسل القردة الممسوخة بإجماع المسلمين على تحريم أكلها من غير كتاب ولا أثر، كما أجمعوا على تحريم أكل لحوم الناس فغير مسلم ولا سديد لثلاثة أمور:
الأول:
تحريم أكل الإنسان لإكرامه، فمن أشنع الكبائر قتله، ولا يباح لأحد أن يقتل غيره وإن اضطر لأكله إذا كان معصوم الدم، ويجوز في حالة الاضطرار أكله إذا كان ميتاً على القول المعتمد الصحيح مع أن بعض الفقهاء منع من ذلك أيضاً لعموم قول نبينا – صلى الله عليه وسلم –: "كسر عظم الميت ككسره حياً".
حاشية: أخرجه أبو داود – كتاب الجنائز – باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان –: (٣/٥٤٣-٥٤٤) ، وابن ماجه – كتاب الجنائز – باب في النهي عن كسر عظم الميت –: (١/٥١٦) ، وأحمد في المسند: (٦/٥٨، ١٠٠، ١٠٥، ١٦٨، ١٦٩، ٢٠٠، ٢٦٣) ، والدارقطني – كتاب الحدود: (٣/١٨٨) ، وانظره في السنن الكبرى للبيهقي: (٤/٥٨) ، وحلية الأولياء: (٧/٩٥) ، وتاريخ بغداد: (١٢/١٠٦، ١٣/١٢٠) ، وأخبار أصبهان: (٢/١٨٦) ، مشكل الآثار: (٢/١٠٨) ، وصحيح ابن حبان – موارد الظمآن: (١٩٦) ، كلهم عن أمنا عائشة – رضي الله تعالى عنها – مرفوعاً، ورواه الإمام مالك في الموطأ ك (١/٢٣٨) – كتاب الجنائز – باب ما جاء في الاختفاء – بلاغاً عنها موقوفاً عليها.
والحديث رواه ابن ماجه – في المكان المتقدم – عن أمنا أم سلمة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – والحديث صحيح بشواهده كما في تعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (١١/١٦٣) ،وقال الحافظ في التلخيص الحبير: (٣/٩٢) حسنه ابن القطان، وذكر القشيري أنه على شرط مسلم.
قال ابن قدامة في المغني: (١١/٧٩-٨٠) ، وإن لم يجد المضطر إلا آدمياً محقون الدم لم يبح له قتله إجماعاً، ولا إتلاف عضو منه، لأنه مثله فلا يجوز أن يقي نفسه بإتلاف غيره، وهذا لا خلاف فيه، ون كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله لأن قتله مباح وهكذا قال أصحاب الشافعي لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع، وإن وجده ميتاً أبيح أكله لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته، وإن وجد معصوماً ميتاً لم يبح أكله في قول أصحابنا وقال الشافعي وبعض الحنفية يباح ن وهو أولى لأن حرمة الحي أعظم، واحتج أصحابنا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي"، واختار أبو الخطاب أن له أكله، وقال: لا حجة في الحديث ههنا، لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد من الحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها، بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت ١٠هـ والذي يظهر لي أن الحديث محمول على حصول الإثم في حالة الاختيار، فإن قيل: فهلا أجزتم ذلك في حياته أيضاً في حالة الاضطرار كما أجزتموه في موته؟ فالجواب: ليست حياة أحدهما بأولى من حياة الآخر، فلا يباح ذلك لأحدهما، وأما إذا كان ذلك واقع منه على نفسه فقد صحح النووي في المنهاج: (٥٦٨) جواز قطع بعضه لأكله بشرط فقد الميتة ونحوها، وكون الخوف في قطعه أقل، ومنع الحنابلة ذلك كما في المغني: (١١/٧٩) لأن ذلك ربما كان سبباً في قتله فيكون قاتلاً لنفسه ولا يتيقن حصول البقاء بأكله، فهذا في وقوع ذلك من نفسه على نفسه، أما على غيره فلا خلاف في منع ذلك وتحريمه، وفي أحكام القرآن لابن العربي: (٤/١٦٢٣) ، والجامع لأحكام القرآن: (١٥/١٢٦) ، وأحكام القرآن للجصاص: (٣٠/٣٧٨) : الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز عند أحد من الفقهاء، وما جرى لنبي الله يونس – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – خاص به، لتحقيق برهانه وزيادة إيمانه.
الثاني:
المعتمد في سبب تحريم أكل لحم القردة أمران وهما:
١- كونها من الخبائث وهي محرمة بنص القرآن، قال ربنا الرحمن: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} الأعراف١٥٧، ويكفي في التدليل على كون القردة من الخبائث حصول المسخ بصورتها، ولعله على هذا يحمل قول من قال من الفقهاء: إنها مسخ فلا تحل ففي المغني: (١١/٦٧) وهو – القرد – مسخ فيكون من الخبائث المحرمة ١هـ أي صورتها صورة ما وقع به المسخ للمجرمين، ولا يكون ذلك إلا بما هو خبيث مشين، وأما إذا قصد بأن القردة الموجودة من نسل الممسوخ حقيقة فباطل باطل، لثبوت الحديث الصحيح بانقراض الممسوخ وعدم تناسله.
٢- هي من السباع التي تعدو بنابها وتفترس به، وهذا هو المعتمد في التعليل بمنع أكل لحم القردة منع تحريم عند الحنفية كما في الاختيار: (٥/١٣) ، والشافعية كما في السراج الوهاج: (٥٦٥) ، والحنابلة كما في الكافي: (١/٤٨٩) ، ودليل هذا القول ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع".
حاشية: انظر صحيح البخاري: (٩/٦٥٧) بشرح ابن حجر – كتاب الذبائح والصيد – باب أكل كل ذي ناب من السباح، وصحيح مسلم – كتاب الصيد والذبائح – باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير –: (٣/١٥٣٣-١٥٣٤) ، وسنن الترمذي – كتاب الصيد – باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب: (٥/١٨٣-١٨٤) ، وكتاب الأطعمة – باب ما جاء في الأكل من آنية الكفار: () ٦/٩٩، وسنن أبي داود – كتاب الأطعمة – باب النهي عن أكل السباع –: (٤/١٥٩) ، وسنن النسائي – كتاب الصيد والذبائح – باب تحريم أكل السباع: (٧/١٧٧) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الصيد – باب أكل كل ذي ناب من السباع: (٢/١٠٧٧) ، وسنن الدارمي – كتاب الأضاحي – باب ما لا يؤكل من السباع –: (٢/٨٥) ، والموطأ – كتاب الصيد – باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع: (٢/٤٩٦) ، والمسند: (٤/١٩٣-١٩٤) ، ومسند الطيالسي – منحة المعبود – كتاب الأطعمة – باب النهي عن أكل ذي ناب من السبع –: (٢/٣٢٧) ، ومسند الحميدي: (٢/٣٨٦) ، وشرح معاني الآثار: (٤/١٩٠) ، والسنن الكبرى للبيهقي: (٩/٣٣١) ومسند الشافعي: (٣٨٠) كلهم من رواية أبي ثعلبة الخشني – رضي الله تعالى عنه –.
ورواه عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – مسلم والبيهقي، وابن ماجه، والنسائي، ومالك، والطحاوي، والشافعي في الأمكنة المتقدمة، وهو في سنن الترمذي – كتاب الأطعمة – باب ما جاء في لحوم الحمر الأهلية: (٦/٩٨) ، والمسند: (٢/٢٣٦، ٣٦٦، ٤١٨) ، مشكل الآثار: (٤/٣٧٥) .
وورد من رواية ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما – عند مسلم -، وأبي داود، والدارمي، والطحاوي، وابن ماجه، والطيالسي في الأمكنة المتقدمة، وهو في سنن النسائي – كتاب الصيد والذبائح – باب إباحة أكل لحوم الدجاج،: (٧/١٨٢:٧/١٨٢) ، وكتاب البيوع – باب بيع المغانم قبل أن تقسم: (٧/٢٦٥) ، وسنن البيهقي: (٩/٣١٥) ، ومنتقى ابن الجارود رقم: "٨٩٢، ٨٩٣"، والمسند: (١/٢٤٤، ٢٨٩، ٣٠٢، ٣٢٦، ٣٢٧، ٣٣٢، ٣٣٩، ٣٧٣) .
وورد عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما – عند الترمذي في أول مكان متقدم، وهو في المسند: (٣/٣٢٣) .
وورد عن العرباض بن سارية – رضي الله تعالى عنه – عند الترمذي – كتاب الأطعمة – باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة: (٥/١٨٠-١٨٢) ، وورد عن على – رضي الله تعالى عنه – عند الطحاوي في المكان المتقدم، وفي المسند: (١/١٤٧) ، وورد هذا المقداد بن معد يكرب عند أبي داود – كتاب السنة – باب في لزوم السنة: (٥/١٠-١٢) ، والمسند: (٤/١٣٠-١٣١، ١٣٢) ، وورد عن خالد بن الوليد – رضي الله تعالى عنه – عند أبي داود – في المكانين الأوليين، وفي سنن النسائي – كتاب الصيد والذبائح – باب تحريم أكل لحوم الخيل –: (٧/١٧٨) ، والمسند: (٤/٨٩، ٩٠) ، وورد عن أبي الدرداء – رضي الله تعالى عنه – في المسند: (٥/١٩٥، ٤٤٥) ، ومسند الحميدي: (١/٩٥) ، وبالجملة فهو حديث مجمع على صحته كما قال ابن عبد البر فيما نقله عنه الحافظ في التلخيص: (٤/١٦٦) ، وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار: (٤/١٩٠) قامت الحجة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع وتواترت بذلك الآثار عنه – صلى الله عليه وسلم –.
الثالث:
خالف المالكية في تحريم أكل لحم القرد، فنقل عنهم أربعة أقوال في أكله وهي: التحريم والكراهية، والإباحة مطلقاً، والإباحة إن أكل الكلأ وإلا كان مكروها، والمعتمد عندهم القول بالكراهية لأن قوله – جل وعلا –: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأنعام١٤٥، يفيد حل أكله وعدك حرمته، ومراعاة قول الجمهور بمنع أكله وتحريمه تقتضي كراهيته كما في حاشية الدسوقي: (٢/١٠٥) .
قال عبد الرحيم: وإذ قد ثبت الفرق المبين، بين سبب المنع من أكل القرود وأكل الآدميين مع وجود خلاف أيضاً في الأول عند أئمة المسلمين فلا يصح قياس أحدهما على الآخر عند أهل الدين، للتوصل بذلك إلى أن القردة من جملة الممسوخين، فبطل بذلك قول الإمام ابن قتيبة – علينا وعليه رحمة أرحم الراحمين – والعلم عند الله رب العالمين.
الرأي الثاني:
يجزم بكون القردة والخنازير الموجودة على ظهر الأرض من نسل أولئك الممسوخين وقد تبنى هذا القول وقرره بما لا يدل عليه الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: (٢/٧٩٨-٧٩٩) ، ونص كلامه: قال علماؤنا: اختلف الناس في الممسوخ هل ينسل أم لا؟ فمنهم من قال: إن الممسوخ لا ينسل، ومنهم من قال: ينسل، وهو الصحيح عندي، والدليل عليه أمران:
أحدهما:
حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – حين سئل عن الضب، فقال: "إن أمة من الأمم مسخت، فأخشى أن يكون الضب منها".
حاشية: أخرجه الإمام مسلم في كتاب الصيد والذبائح – باب إباحة الذب: (٣/١٠٢-١٠٣) بشرح الإمام النووي، والإمام أحمد في المسند: (٣/٣٢٣، ٣٨٠) ، والإمام البيهقي في كتاب الضحايا – باب ما جاء في الضب: (٩/٣٢٤) ، والإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار – باب أكل الضب: (٤/١٩٨) كلهم عن جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهم أجمعين –.
ورواه عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة مسلم في المكان المتقدم وكذلك البيهقي والطحاوي، وابن ماجه – كتاب الصيد – باب الضب: (٢/١٠٧٩) ، والخطيب في تاريخ بغداد: (١١/٣٧٦) .
ورواه أيضاً عن عبد الرحمن بن حسنة – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة: البيهقي والطحاوي في المكانين المتقدمين، وأبو يعلى، والطبراني في الكبير، والبزار ورجال الثلاثة الصحيح كما في مجمع الزوائد: (٤/٣٧) – كتاب الصيد – باب في الضب –.
ورواه عن ثابت بن وديعة – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة: البيهقي والطحاوي في المكانين المتقدمين، وأحمد في المسند: (٥/٣٩٠) من حديث حذيفة بن اليمان محالاً به على ثابت بن وديعة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواه النسائي في كتاب الصيد والذبائح – باب الضب –: (٧/١٧٦) ، وأبو داود – كتاب الأطعمة – باب في أكل الضب: (٤/١٥٤) والدارمي في كتاب الصيد – باب في أكل الضب: (٢/٢٠) .
ورواه عن حذيفة بن اليمان – رضي الله تعالى عنهما – البزار ورجاله رجال الصحيح كما في المجمع: (٤/٣٧) ، ورواه أيضاً عن سمرة – رضي الله تعالى عنه – كل من الأئمة: أحمد في المسند: (٥/١٩، ٢١) ، والطحاوي في المكان المتقدم، والبزار والطبراني في الكبير والأوسط باختصار، ورجال البزار ثقات كما في مجمع الزوائد: (٤/٣٧) ورواه أيضاً الطبراني من طريق آخر في الكبير بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي.
ورواه عن عبد الرحمن بن غنم – رضي الله تعالى عنه – أحمد في المسند: (٢/٢٢٧) ، قال الهيثمي في المجمع: (٤/٣٧) ، وقد ذكر لعبد الرحمن بن غنم ترجمة فهو مرسل حسن الإسناد، على رأي الإمام أحمد ١هـ وعبد الرحمن بن غنم يسمى به رجلان أحدهما صحابي والآخر مختلف في صحبته، وقال أحمد، أدرك ولم يسمع كما ذكر ذلك الحافظ في الإصابة: (٢/٤١٧-٤١٨) القسم الأول، و: (٣/٩٧-٩٨) القسم الثالث، ولا يغيبن عنك اصطلاحه في الإصابة، وللأخير ترجمة في طبقات ابن سعد: (٧/٤٤١) ، والاستيعاب على هامش الإصابة: (٢/٢٢٤-٤٢٥) ، وأسد الغابة: (٣/٤٨٧-١٨٨) ، وتجريد أسماء الصحابة: (١/٣٥٤) ، ولم يذكروا الأول.
وثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "الفأر مسخ، ألا ترى إذا وضع له ألبان الإبل لم يشربها".
حاشية: أخرجه الإمام مسلم: (١٨/١٢٤) بشرح النووي – كتاب الزهد – باب أحاديث متفرقة – والبخاري: (٦/٣٥١) بشرح ابن حجر – كتاب بدء الخلق – باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، وأحمد في المسند: (٢/٢٣٤، ٢٧٩، ٢٨٩، ٤١١، ٥٩٧، ٥٠٧) عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضعت لها ألبان الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاة شربته".
ووجه الاستشهاد منه عدم شرب الفأر ألبان الإبل، وقد كان ذلك من جملة الأشياء التي حرمها نبي الله يعقوب – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – على نفسه فحرمها قومه تبعاً له، ففي المسند: (١/٢٧٣، ٢٧٤، ٢٧٨) ، وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الرعد –: (٨/٢٧٧-٢٧٨) ، وتفسير الطبري: (٤/٥) ، والتاريخ الكبير للبخاري: (٢/١١٤) ، وأسانيد المسند صحيحة كما قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند: (٤/١٥٦، ١٦١) رقم: "٢٤٧١، ٢٤٨٣، ٢٥١٤"، وقال الترمذي حسن صحيح غريب، وكذلك ورد في تحفة الأحوذي: (٤/١٢٩) لكن في الطبعة المصرية: (٥/٢٩٤) حسن غريب، ولفظ الرواية الأولى في المسند عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنها، لا يعلمهن إلا نبي، فكان فيما سألوه: أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه، قبل أن تنزل التوراة؟ قال: فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب – عليه السلام – مرض مرضاً شديداً، فطال سقمه، فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ ". فقالوا: اللهم نعم، وقد حرم يعقوب – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – العروق أيضاً، وزائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر، فانظر تفصيل ذلك في زاد المسير: (١/٤٢٢-٤٢٣) ، وتفسير ابن كثير: (١/٣٨١-٣٨٢) ، وتفسير ابن جرير: (٤/٢-٥) ، وفيه: قال أبو جعفر وأولى هذه الأقوال بالصواب قول ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – الذي رواه الأعمش عن حبيب عن سعيد عنه أن ذلك العروق، ولحوم الإبل (وألبانها) لأن اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلها، وقد روي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خير وهو، ثم سرد الحديث المتقدم.
وانظر ما يتعلق بذلك في الدر: (٢/٥١-٥٢) ، والمستدرك: (٢/٢٩٢) – كتاب التفسير – سورة آل عمران –، ومعالم التنزيل: (١/٣٨٠) ، ولباب التأويل: (١/٣٨٠) مطبوع مع سابقه.
وروى البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال: رأيت في الجاهلية قردة قد اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم، ثبت في بعض نسخ البخاري، وسقط من بعضها وثبت في بعض الحديث: وقد زنت، وسقط هذا اللفظ عند بعضهم.
حاشية: انظر صحيح البخاري بشرح ابن حجر – كتاب مناقيب الأنصار – رضي الله تعالى عنهم – باب القسامة في الجاهلية والحديث في التاريخ الكبير أيضاً: (٦/٣٦٧) ، وانظر ترجمة عمرو بن ميمون في الاستيعاب على هامش الإصابة: (٢/٥٤٢-٥٤٤) ، وأسد الغابة: (٤/٢٧٥-٢٧٦) ، وتجريد أسماء الصحابة: (١/٤١٨) ، والإصابة: (٣/١١٨) – القسم الأول –، وطبقات ابن سعد: (٦/١١٧-١١٨) ، وفيه المعرفة والتاريخ: (٢/٥٦٣) ، وتذكرة الحفاظ: (١/٦٥) ، وشذرات الذهب: (١/٨٢) ، كان عمر بن ميمون إذا دخل المسجد فرئي ذكر الله – عز وجل – وانظر الجرح والتعديل: (٦/٢٨٥) ، وحلية الأولياء: (٤/١٤٨-١٥٤) ، وصفة الصفوة: (٣/٣٥) ، والمعارف: (١٨٨) ، وفي التقريب: (٢/٨٠) مخضرم مشهور ثقة عابد مات سنة أربع وسبعين وقيل بعدها، أخرج حديثه الستة – عليه رحمة الله تعالى –.
هذا وقد استنكر ابن عبد البر في الاستيعاب خبره المتقدم في رجم القردة فقال: هذا عند جماعة أهل العلم منكر، إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم، ولو صح لكانوا من الجن لأن العبادات في الجن والإنس دون غيرهما، وقد كان الرجم في التوراة، وقال ابن عبد البر: إن مدار الخبر على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما ١هـ وتبعه على هذا ابن الأثير في أسد الغابة، فقال: وهذا مما أدخل في صحيح البخاري ١هـ ومال إلى ذلك القرطبي في تفسيره: (١/٤٤١) فحكى عن الحميدي أنه قال: لعل هذا الحديث من المقحمات في كتاب البخاري ١هـ وذلك منهم – رحمهم الله جميعاً، مردود منكر، فند أقوالهم الحافظ ابن حجر في الفتح: (٧/١٦٠) ، والإصابة، وعبارته في الفتح: وإنما قال ذلك – يعني ابن عبد البر – لأنه تكلم عن الطريق التي أخرجها الإسماعيلي حسب وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين فزعم أن هذا الحديث وقع في بعض نسخ البخاري، وأن أبا مسعود وحده (هو إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي المتوفى سنة: ٤٠١ هـ وهو عليه رحمة الله تعالى – له أطراف الصحيحين كما في الرسالة المستطرقة: ١٦٧) ذكره في الأطراف، قال: وليس في نسخ البخاري أصلاً فلعله من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري، وما قاله مردود، فإن الحديث المذكور في معظم الأصول التي وقفنا عليها ... وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته إليه وهذا الذي قاله تخيل فاسد يتطرق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح، لأنه إذا جاز في واحد لا بعينه جاز في كل فرد فرد، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور. واتفاق العلماء ينافي ذلك والطريق التي أخرجها البخاري دافعة لتضعيف ابن عبد البر للطريق التي أخرجها الإسماعيلي، وإنما أطنبت في هذا لئلا يغتر ضعيف بكلام الحميدي فيعتمده، وهو ظاهر الفساد ١٠هـ.
قال الإمام ابن العربي: فإن قيل: وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفاً عن سلف إلى زمان عمرو بن ميمون الأودي؟ قلنا: نعم، كذلك كان، لأن اليهود غيروا الرجم، فأراد الله – جل وعز – أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون إبلاغاً في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم حتى يعلموا أن الله – عز وجل – يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويحصى ما يبدلون وما يغترون، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون، وينصر نبيه – صلى الله عليه وسلم – وهم لا ينصرون ١٠هـ هذا كله كلام ابن العربي، الأمر الثاني في كلامه غير موجود كما أشار إليه في بداية الكلام فتأمل يا أخا الإسلام.
قال عبد الرحيم – غفر الله ذنوبه أجمعين –: ليس فيما ذكره ابن العربي دلالة على أن القرود من نسل الممسوخين في الزمن القديم، لأن من أمعن النظر، واستقرأ الأدلة الواردة في هذا الشأن، وجمع بينها الجمع المعتبر، تبين له أن الحديثين الأوليين كانا ظناً من النبي – صلى الله عليه وسلم – وخوفاً من أن يكون الضب والفار مما مسخ، وذلك عن طريق الحدس، والتخمين قبل أن يوحى إليه – صلى الله عليه وسلم – بما آل إليه أمر الممسوخين، وقد أوحي إليه بعد ذلك بالحق المبين، فبين لنا أن القردة ليست من نسل الممسوخين، وتقدم قريباً الحديث الذي رواه الإمام مسلم وغيره، وفيه: قال رجل يا رسول الله – القردة والخنازير مما مسخ؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "إن الله – عز وجل – لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" هذا ما قرره الأئمة الكرام، الطحاوي في شرح معاني الآثار: (٤/١٩٩) ، والقرطبي في تفسيره: (١/٤٤٢) ، وابن حجر في الفتح: (٦/٣٥٣، ٧/١٦٠) ، وعبارة الأول: بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث أن المسوخ لا يكون لها نسل , ولا عقب، فعلمنا بذلك أن الضب لو كان مما نسخ لم يبق، فانتفى بذلك أن يكون الضب بمكروه من قبل أنه مسخ، أو قبل ما جاز أن يكون مسخاً.
وأما حديث عمرو بن ميمون في رؤية رجم القردة قردة زنت، ومشاركته في رجمها فلا يلزم أن تكون القردة المذكورة من نسل الممسوخين، فيحتمل أن يكون الذين مسخوا لما صاروا على هيئة القردة مع بقاء أفهامهم عاشرتهم القردة الأصلية للمشابهة في الشكل فتلقوا عنهم بعض ما شاهدوه من أفعالهم فحفظوها، وصارت فيهم، واختص القرد بذلك لما فيه من الفطنة الزائدة على غيره من الحيوانات، وقابلية التعليم لكل صناعة مما ليس لأكثر الحيوان، ومن خصاله أنه يضحك ويطرب ويحكي ما يراه، وفيه من شدة الغيرة ما يوازي الآدمي، ولا يتعدى أحدهم إلى غير زوجته، فلا يدع في الغالب أن يحملها ما ركب فيها من الغيرة على عقوبة من اعتدى إلى ما لم يختص به من الأنثى ومن خصائصه أن الأنثى تحمل أولادها كهيئة الآدمية، وربما مشى القرد على رجليه، لكن لا يستمر على ذلك، ويتناول الشيء بيده، ويأكل بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظافر، ولشعر عينيه أهداب...... وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الخيل له من طريق الأوزاعي، أن مهراً أنزى على أمه فامتنع فأدخلت في بيت وجللت بكساء وأنزى عليها فنزى، فلما شم ريح أمه عمد إليها ذكره فقطعه بأسنانه من أصله، فإذا كان هذا الفهم في الخيل مع كونها أبعد عن الفطنة من القردة فجوازها في القرود أولى، هذا كله كلام الحافظ في الفتح: (٧/١٦٠-١٦١) ، وفي عيون الأخبار: (٢/٨٤) قالوا: ليس شيء يجتمع فيه الزواج والغيرة إلا الإنسان والقردة، وانظر كتاب حياة الحيوان: (٤/٣٦-٤٤) باب جملة القول في القرد والخنزير.
وللإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: (١٧٢-١٧٣) كلام جيد حول ما نقل عن عمرو بن ميمون في رجم القردة قدرة، ومشاركته لهم في رجمها وهو: ويمكن أن يكون عمرو بن ميمون رأى القرود ترجم فظن أنها ترجمها لأنها زنت وهذا لا يعلمه أحد إلا ظناً، لأن القرود لا تنبئ عن أنفسها، والذي يراها تتسافد لا يعلم أزنت أم لم تزن، هذا ظن، ولعل الشيخ عرف أنها زنت بوجه من الدلائل لا نعلمه، فإن القرود أزنى البهائم والعرب تضرب بها المثل، فتقول: أزنى من قرد، ولولا أن الزنا منه معروف ما ضربت به المثل، وليس شيء أشبه بالإنسان في الزواج والغيرة منه، والبهائم قد تتعادى، ويثب بعضها على بعض، ويعاقب بعضها بعضاً، فمنها ما يعض ومنهال ما يخدش، ومنها ما يكسر ويحطم، والقرود ترجم بالأكف التي جعلها الله – عز وجل – لها كما يرجم الإنسان، فإن كان إنما رجم بعضها بعضاً لغير زنا فتوهمه الشيخ لزنا فليس ببعيد، وإن كان الشيخ قد استدل على الزنا منها بدليل، وعلى أن الرجم كان من أجله فليس ذلك أيضاً ببعيد، لأنها على ما أعلمتك أشد البهائم غيرة، وأقربها من بني آدم أفهاماً....... ولسنا نقول: إنها فعلت ذلك بحكم التوراة، ولكنا نقول: إنها عاقبت بالرجم إما على الزنا، أو على غير ذلك من أجل أكفها، كما يخدش غيرها، ويعض، ويكسر، إذ كانت أكفها كأكف بني آدم، وكان ابن آدم لا ينال ما يريد أذاه إذا بعد عنه إلا بالرجم ١٠هـ.
وصفوة الكلام في هذه المسألة العظيمة الشأن أن المسخ وقد حقيقة على الأبدان، فيمن عتوا عن أمر ربنا الرحمن، من بني إسرائيل اللئام، ومنعوا حالة مسخهم من الشراب والطعام، كما منعوا من إعقاب الولدان، ولم يكتب لهم العيش بعد المسخ إلا ثلاثة أيام، ليكونوا عبرة وموعظة للأنام، وهذا هو المنقول عن السلف الكرام، ففي جامع البيان: (١/٢٦١) عن حبر الأمة وبحرها – عليه الرضوان –: مسخهم الله – عز وجل – قردة بمعصيتهم ولم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام ولم تأكل ولم تشرب ولم تنسل وقد خلق الله – جل وعلا – القردة، والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله – جل جلاله – في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء كما يشاء ويحوله كما يشاء، وفي تفسير ابن حاتم كما في الدر: (١/٧٠٥) عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أيضاً: ما كان للمسخ نس، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أيضاً عن الحسن البصري – رحمه الله تعالى – كما في الدر المنثور: (١/٧٥) انقطع ذلك النسل.
حاشية: وبالتحقيق الذي تقدم تعلم أخي المكرم كذب الحديث الموضوع على نبينا – صلى الله عليه وسلم – وهو من الموضوعات للإمام ابن الجوزي – كتاب المبتدأ – باب ذكر المسوخ: (١/١٨٥-١٨٦) عن عليّ – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عن المسوخ، فقال: "هم اثنا عشر: الفيل، والدب، والخنزير، والقرد، والأرنب، والضب، والوطواط، والعقرب، والعنكبوت، والدعموص، وسهيل، والزهرة، فقيل: ما سبب مسخهم؟ فقال: أما الفيل فكان جباراً لوطياً، لا يدع رطباً ولا يابساً، وأما الدب فكان رجلاً مؤنثاً يدعو الرجال إلى نفسه، وأما الخنزير فكان من قوم نصارى فسألوا ربهم نزول المائدة، فلما نزلت عليهم كانوا أشد ما كانوا كفراً، وأشده تكذيباً، وأما القرد فيهود اعتدوا في السبت، وأما الأرنب فكانت امرأة لا تظهر من حيض ولا من غير ذلك، وأما الضب فكان أعرابياً يسرق الحاج بمحجنه – كل معوج الرأس كالصولجان – كما في المعجم الوسيط: (١/١٥٩) – باب الحاء – وأما الوطواط فكان يسرق الثمار من رؤوس النخيل، وأما العقرب فكان رجلاً لداغاً لا يسلم على لسانه أحد، وأما العنكبوت فكان امرأة سحرت زوجها، وأما الدعموص فكان رجلاً نماماً يفرق بين الأحبة، وأما سهيل فكان عشاراً باليمن، وأما الزهرة فكانت امرأة نصرانية ابنة بعض ملوك بني إسرائيل، وهي التي فتن بها هاروت وماروت، وكان اسمها أناهيد".
قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما وضعه إلا ملحد يقصد وهن الشريعة بنسبة هذا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو مستهين بالدين لا يبالي ما فعل، والمتهم به مغيث مولى جعفر الصادق، قال أبو الفتح الأزدي: مغيث كذاب خبيث لا يساوي شيئاً، روى حديث المسوخ، وهو حديث منكر، ثم ذكر ابن الجوزي أن الحديث الصحيح المتقدم: "إن الله لم يهلك قوماً، أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" يرد هذا.
وقد وافق الأئمة ابن الجوزي في حكمه على الحديث بالوضع وأقروه انظر تنزيه الشريعة: (١/١٧٧-١٧٨) – الفصل الأول من كتاب المبتدأ –، واللآلئ المصنوعة: (١/١٥٧-١٥٨) ، والفوائد المجموعة: (٤٩١) ، وفي الميزان: (٤/١٤٢) معتب عن مولاه جعفر الصادق، قال أبو الفتح الأزدي: معتب كذاب، وقيل: اسمه مغيث، وله حديث باطل.