ومالك بن الحارث الأشتر (١) في طائفة هؤلاء رؤوسهم، فناهيك بغيرهم
. . . . . . . . . .
(١) من النخَع، وهي قبيلة يمنية من قبائل مَذْحج، بطل شجاع من أبطال العرب، كان أول مشاهده الحربية في اليرموك، وفيها فقد إحدى عينيه، ثم شاء الله أن يكون سيفه مسلولا على إخوانه المسلمين في مواقف الفتنة. ولو أنه لم يكن ممن ألب على أمير المؤمنين عثمان، وكتب الله أن تكون وقائعه الحربية في نشر دعوة الإسلام وتوسيع الفتوح، لكان له في التاريخ شأن آخر. والذي دفعه في هذا الطريق غلوه في الدين وحبه للرئاسة والجاه، ولست أدري كيف اجتمعتا فيه. والأشتر أحد الذين اتخذوا الكوفة دار إقامة لهم، فلما كانت إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة كان الأشتر يشعر في نفسه بأنه أهل للولاية والرئاسة، فانزلق مع العائبين على الدولة ورجالها، من الخليفة الأعلى في المدينة إلى عامله على الكوفة الوليد بن عقبة. ولما سرق أبو زينب وأبو مورع خاتم الوليد من منزله وذهبا به إلى المدينة فشهدا على الوليد بشرب الخمر كما تقدم في ص٩٦ أسرع الأشتر وآخرون معه بالذهاب إلى المدينة لتوسيع دائرة الفتنة، حتى إذا عزل عثمان الوليد بسعيد بن العاص عاد الأشتر مع سعيد إلى الكوفة، (الطبري ٥: ٦٣) . وكان عثمان قد سن نظام مبادلة الأراضي، فمن كانت له أرض من الفيء في مكان بعيد عنه يبادل عليها بأرض قريبة منه بالتراضي بين المتبادلين. وبهذه الطريقة تخلى طلحة بن عبيد الله عن أسهمه في خيبر واشترى بها من فيء أهل المدينة بالعراق أرضا يقال لها النشاستج (الطبري ٥: ٦٤) . وبينما كان سعيد بن العاص في دار الإمارة بالكوفة والناس عنده أثنى رجل على طلحة بن عبيد الله بالجود، فقال سعيد بن العاص: لو كان لي مثل أرض النشاستج لأعاشكم الله عيشا رغدا. فقال له عبد الرحمن بن خنيس الأسدي: وودت لو كان هذا الملطاط لك. والملطاط أرض على جانب الفرات كانت لآل كسرى. فغضب الأشتر وأصحابه وقالوا للأسدي: تتمنى له من سوادنا؟ فقال والده: ويتمنى لكم أضعافه. فثار الأشتر وصحبه على الأسدي وأبيه وضربوهما في مجلس الإمارة حتى غشي عليهما. وسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وأحاطوا بالقصر ليدافعوا عن رجليهما، فتلافى سعيد بن العاص هذه الفتنة بحكمته، ورد بني أسد عن الأشتر وجماعته. وكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان في إخراج هؤلاء المشاغبين من بلدهم، فأرسلهم إلى معاوية في الشام (الطبري ٥: ٨٥ - ٨٦) ثم أخرجهم معاوية فنزلوا جزيرة ابن عمر تحت حكم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، إلى أن تظاهروا بالتوبة، فذهب الأشتر إلى المدينة ليرفع إلى عثمان توبتهم، فرضي عنه عثمان وأباح له الذهاب حيث شاء، فاختار العودة إلى زملائه الذين عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في الجزيرة (الطبري ٥: ٨٧ - ٨٨) . وفي الوقت الذي كان فيه الأشتر يعرض على عثمان توبته وتوبة زملائه وذلك في سنة ٣٤ كان السبئيون في مصر يكاتبون أشياعهم في الكوفة والبصرة بأن يثوروا على أمرائهم واتعدوا يوما، فلم يستقم ذلك إلا لجماعة الكوفة، فثار بهم يزيد بن قيس الأرحبي (الطبري ٥: ١٠١) . ولما وصل الأشتر من المدينة إلى إخوانه الذين عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وجد بين أيديهم كتابا من يزيد بن قيس الأرحبي يقول لهم فيه: لا تضعوا كتابي من أيديكم حتى تجيئوا. فتشاءموا من هذه الدعوة وآثروا البقاء، وخالفهم الأشتر فرجع عاصيا بعد توبته، والتحق بثوار الكوفة وقد نزلوا في الجرعة - مكان مشرف على القادسية - وهناك تلقوا سعيد بن العاص أميرا على الكوفة وهو عائد من المدينة فردوه، ولقي الأشتر مولى لسعيد بن العاص فضرب الأشتر عنقه. وبلغ عثمان أنهم يريدون إقالة سعيد بأبي موسى الأشعري فأجابهم إلى ما طلبوا (الطبري ٥: ٩٣ - ٩٤) . ولما فشل موعد سنة ٣٤ واقتصرت الفتنة على ما كان في الجرعة، اتعد السبئيون للسنة التي بعدها (سنة ٣٥) ورتبوا أمرهم على التوجه إلى المدينة مع الحجاج كالحجاج، وكان الأشتر مع خوارج الكوفة رئيسا على فرقة من فرقهم الأربع (الطبري ٥: ١٠٤) . وبعد وصولهم إلى المدينة ناقشهم أمير المؤمنين عثمان وبين لهم حجته في كل ما كانوا يظنونه فيه، فاقتنع جمهورهم بذلك وحملوا رؤساء الفتنة على الرضا بأجوبة عثمان وارتحلوا من المدينة للمرة الأولى. إلا أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة ولم يرتحلا معهم (الطبري ٥: ١٢٠) . ولما وصل المصريون إلى مكان يسمى البويب اعترضهم راكب مثل لهم دور حامل الكتاب المزعوم، وسيأتي الحديث عن ذلك في ص ١٢٦. ونقل الطبري (٥: ١٩٤) أن الأشتر كان في مؤتمر السبئيين الذي عقدوه قبيل ارتحال علي من الكوفة إلى البصرة للتفاهم مع طلحة والزبير وعائشة. فقرر السبئيون في مؤتمرهم هذا أن ينشبوا الحرب بين الفريقين قبل أن يصطلحا عليهم. وفي وقعة الجمل اصطرع عبد الله بن الزبير والأشتر واختلفا ضربتين وقال عبد الله بن الزبير كلمته المشهورة: " اقتلوني ومالكا " فأفلت منه مالك الأشتر، روى الطبري (٥: ٢١٧) عن الشعبي أن الناس كانوا لا يعرفون الأشتر باسم مالك، ولو قال ابن الزبير " اقتلوني والأشتر " وكان للأشتر ألف ألف نفس ما نجا منها شيء، وما زال يضطرب في يدي ابن الزبير حتى أفلت. وروى الطبري (٥: ١٩٤) أن عليا لما فرغ من البيعة بعد وقعة الجمل واستعمل عبد الله بن عباس على البصرة بلغ الأشتر الخبر باستعمال علي ابن عباس فغضب وقال: " علام قتلنا الشيخ إذن؟ ! اليمن لعبيد الله، والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعلي! " ثم دعا بدابته فركب راجعا. وبلغ ذلك عليا فنادى: الرحيل! ثم أجد السير فلحق به فلم يره أنه بلغه عنه وقال: " ما هذا السير؟ سبقتنا! ". وخشي إن تُرك والخروج أن يوقع في نفس الناس شرا. ثم اشترك الأشتر في حرب صفين. وولاه علي إمارة مصر بعد صرف قيس بن سعد بن عبادة عنها. فلما وصل القلزم (السويس) شرب شربة عسل فمات، فقيل إنها كانت مسمومة، وكان ذلك سنة ٣٨ (الإصابة ٣: ٤٨٢) .