للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والتلفت إلى فتواه، والانقياد إلى روايته وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم.

وأما الوليد فقد روى بعض المفسرين أن الله سماه فاسقا في قوله {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: ٦] فإنها - في قولهم - نزلت فيه، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصطلق، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم خالد بن الوليد فتثبت في أمرهم فبين بطلان قوله. وقد اختُلف فيه، فقيل: نزلت في ذلك (١) وقيل: في علي والوليد في قصة أخرى، وقيل: إن الوليد سبق يوم الفتح في جملة الصبيان


(١) كنت فيما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقا، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ وأوردنا الأمثلة عليها في هامش ص٨٦ عند استعراضنا ماضيه في بضعة عشر عاما قبل أن يوليه عثمان الكوفة، إن هذا التناقض - بين ثقة أبي بكر وعمر بالوليد بن عقبة، وبين ما كان ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه فاسقا - حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه، لا استبعادا لوقوع أمر من الوليد يعد به فاسقا، ولكن استبعادا لأن يكون الموصوم بالفسق في صريح القرآن محل الثقة من رجلين لا نعرف في أولياء الله عز وجل بعد رسوله صلى الله عليه وسلم من هو أقرب إلى الله منهما. وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية " إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ. . . "، فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد، أو قتادة أو ابن أبي ليلى، أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد منهم أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة، وإن الذين لهم هوى في تسويء سمعة مثل الوليد ومن هم أعظم مقاما من الوليد قد ملأوا الدنيا أخبارا مريبة ليس لها قيمة علمية. وما دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية مجهولين من علماء الجرح والتعديل بعد الرجال الموقوفة هذه الأخبار عليهم، وعلماء الجرح والتعديل لا يعرفون من أمرهم حتى ولا أسمائهم، فمن غير الجائز شرعا وتاريخا الحكم بصحة هذه الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها وترتيب الأحكام عليها. وهنالك خبران موصولان أحدهما عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة. وموسى بن عبيدة ضعفه النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة. وثابت المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما رجعت إليه من كتب العلم، فلم يذكر في تهذيب التهذيب ولا في تقريب التهذيب ولا في خلاصة تذهيب الكمال، بل لم أجده ولا في قفصي الاتهام أعني (ميزان الاعتدال) و (لسان الميزان) . وذهبت إلى مجموعة أحاديث أم سلمة في مسند الإمام أحمد فقرأتها واحدا واحدا فلم أجد فيها هذا الخبر، بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيه اسم مولى لها يدعى ثابتا، زد على كل هذا أن أم سلمة لم تقل في هذا الخبر - إن صح عنها، ولا سبيل إلى أن يصح عنها -: إن الآية نزلت في الوليد، بل قالت - أي قيل على لسانها -: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم (رجلا) في صدقات بني المصطلق ". والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس: والطبري لم يلق ابن سعد ولم يأخذ عنه، لأن ابن سعد لما توفي ببغداد سنة ٢٣٠ كان الطبري طفلا في نحو السادسة من عمره ولم يخرج إلى ذلك الحين من بلد آمل في طبرستان لا إلى بغداد ولا لغيرها. وابن سعد وإن كان في نفسه من أهل العدالة في الدين والجلالة في العلم، إلا أن هذه السلسلة من سلفه يجهل علماء الجرح والتعديل أسماء أكثرهم فضلا عن أن يعرفوا شيئا من أحوالهم (وبعد كتابة ما تقدم للطبعة الأولى من كتابنا تبين لي أن ابن سعد الذي روى عنه الطبري هو محمد بن سعد العوفي. وقد وصف الشيخ أحمد شاكر سنده بأنه " سند مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة ". انظر تفسير الطبري طبعة دار المعارف ١: ٢٦٣ - ٢٦٤) . فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها لا يجوز أن يؤاخذ بها مُجاهِدٌ كان موضع ثقة أبي بكر وعمر، وقام بخدمات للإسلام يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله. أضف إلى كل ما تقدم أنه في الوقت الذي حدثت فيه لبني المصطلق الحادثة التي نزلت فيها الآية كان الوليد صغير السن كما سيأتي في الفقرة التالية.

<<  <   >  >>