للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكلما قوى الإيمان أكثر وأكثر ازداد تعلق صاحبه بالآخرة ورغبته فيها، وازداد زهده في الدنيا بصورة أشد وأشد لدرجة أنه لا يترك لنفسه إلا أقل القليل منها وبما يُحقق له ضروريات الحياة، وليس هذا بسبب معارضته لمبدأ التمتع بمباحات الدنيا، ولكن لأن إيمانه يأبى عليه ذلك ويدفعه لاستثمار كل ما يأتيه في حياته لداره الآخرة متمثلًا قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ} [القصص/٧٧]، لذلك فهو يحتاج دومًا إلى من يذكره بقوله تعالى: ... {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص/٧٧].

وكيف لا، وإيمانه يأبي عليه أن يتوسع في هذا النصيب.

هكذا كانوا:

بهذه المستويات الإيمانية تعامل الصحابة - رضوان الله عليهم - مع الدنيا فكانت منهم أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالي من ضعاف الإيمان الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة واللهو بطين الأرض.

فهذا أبو الدرداء نزلت به جماعة من الأضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخنًا، ولم يبعث إليهم بالأغطية فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف، فقال واحد منهم أنا أذهب إليه وأكلمه، فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إلا ثوب خفيف لا يقي من حر ولا يصون من برد، فقال الرجل لأبي الدرداء: ما أراك بت إلا كما نبيت نحن!! أين متاعكم؟! فقال: لنا دار هناك نُرسل إليها تباعًا كل ما نحصل عليه من متاع ولو كنا قد استبقينا في هذه الدار شيئًا منه لبعثنا به إليكم، ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤود المُخِفّ فيها خير من المُثقِل، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علَّنا نجتاز (١).

وكان طلحة بن عبيد الله تاجرًا فجاءه ذات يوم مال من «حضرموت» مقداره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته جزعًا محزونًا.

فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم، وقالت: ما بك يا أبا محمد؟!! لعله رابك منَّا شيء!!

فقال: لا، ولنِعْمَ حليلة الرجل المسلم أنت، ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت: ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وفي بيته هذا المال؟!، قالت: وما يغمك منه؟! أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلَّائك؟! فإذا أصبحت فقسمه بينهم، فقال: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق، فلما أصبح جعل المال في صُرَرٍ وجِفَان، وقسمه بين فقراء المهاجرين والأنصار (٢).

وفي يوم من الأيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل «حِمص»، فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسُدّ حاجاتهم، فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه فلان وفلان، وسعيد بن عامر، فقال: ومن سعيد بن عامر؟! فقالوا: أميرنا. قال: أميركم فقير؟! قالوا: نعم، ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صرة وقال: اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك.


(١) الإصابة ج٣ ترجمة (٦١١٧)، وأسد الغابة (٤/ ١٥٩)، تاريخ الإسلام للذهبي (٢/ ١٠٧).
(٢) طبقات ابن سعد (٣/ ٢١٤)، وتهذيب التهذيب (٥/ ٢٠)، والإصابة (٢/ ٢٢٩) ترجمة (٤٢٦٦)، وحلية الأولياء (١/ ٧).

<<  <   >  >>