في هذه اللحظات قطع الداعية صمته قائلًا لجلسائه: إن صمام الأمان لهذه الدعوة - بعد قوة الصلة بالله -: هو رابطة الأخوة، فالأخوة هي الحبل الذي ينتظم قلوب أبناء الدعوة، ويربط بعضها ببعض، فإذا ما وهن ذلك الحبل أو انقطع تفرقت القلوب وابتعدت، فيكون لذلك أسوأ الأثر على الدعوة.
ساد الصمت المكان، واستشعر الحاضرون الخطر، وفهموا الرسالة جيدًا، ثم انكبوا يجمعون حبات المسبحة ليعيدوا وصلها من جديد بخيط متين، وانطلقوا يعانق بعضهم بعضًا ويتصافحون في حب وود، العيون دامعة، والقلوب خافقة، والصدور سليمة صافية.
[ثالث عشر: الاستفادة من الأحداث غير المألوفة]
يزداد إرهاف الحس، وتأجج المشاعر، ويقظة العقل عندما تحدث أمام المرء أحداث غير مألوفة، ويصبح على درجة عالية من الاستعداد للتلقي، لذلك نجد القرآن الكريم بعد الأحداث الكبيرة التي مرت بالصحابة رضوان الله عليهم ينزل ليعلمهم ويوجههم ويربيهم حتى يستفيدوا من هذه الأحداث في مزيد من الاستقامة لله عز وجل، وبخاصة أن النفوس تظل مدة من الزمن متعلقة بتلك الأحداث، وتكون فيها على استعداد لتلقي التوجيهات المتعلقة بها، ومثال ذلك: تعقيب القرآن الطويل على حادثة الإفك وكيف يستفيدون منها بعد ذلك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}[النور: ١٢]، {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[النور: ١٧]، وتعقيبه على ما فعله حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - في محاولته -غير الناجحة - لإخبار أهل مكة بعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على السير إليهم ودخول مكة فاتحًا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[الممتحنة: ١].
وكذلك التعقيب القرآني بعد غزوة بدر، وأحد، وبني النضير، والأحزاب، وما فيها من دروس وعبر وتوجيهات نحو مزيد من الاستقامة.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع الصحابة رضوان الله عليهم ويربط دومًا بين الحدث غير المألوف والمعاني الإيمانية الدالة عليه.
ففي يوم من الأيام وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم بين صحابته إذ جاءه سَبْي، وفي هذا السبي امرأة تسعى ملهوفة مضطربة قد ضاع منها رضيعها، واستمرت على هذا الحال الشديد حتى وجدته، فأخذته وضمته إلي صدرها بشدة ثم أرضعته.
هذا المنظر شاهده الصحابة فأثر فيهم غاية التأثير، فلم يتركه صلى الله عليه وسلم يذهب سُدى، بل وجهه توجيهًا إيمانيًا، فقال لهم:«أترون هذه طارحة ولدها في النار؟!» قالوا: لا والله. قال:«الله أرحم بعباده من هذه على ولدها»(١).
إذن علينا أن نستفيد من الأحداث غير المألوفة التي تمر بنا في توجيه أنفسنا والآخرين نحو مزيد من الاستقامة لله عز وجل.
هل هناك مزيد من الوسائل؟
(١) متفق عليه: أخرجه البخاري (٥/ ٢٢٣٥، رقم ٥٦٥٣)، ومسلم (٤/ ٢١٠٩، رقم ٢٧٥٤).