والذي يجد أمامه عدة طرق، ولا يدري أيهم يوصله إلى مقصوده فإنه يظل يسأل ويتقصى حتى تزول حيرته، ويطمئن إلى الطريق الصحيح، فيتوجه إليه، فإن لم يترجح لديه طريق، وسار في أحدهم من باب التجربة، تجده شاكًّا مرتابًا متحيرًا أثناء سيره، ويظل كذلك حتى يجد علامة أو آية تُذهب حيرته، وتبعث الإيمان والاطمئنان إلى قلبه بأن ما يسير فيه هو الطريق الصحيح .. تأمل قول الحواريين وهم يطلبون من عيسى بن مريم عليه السلام نزول مائدة من السماء عليهم {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا}[المائدة: ١١٣].
من هنا نقول بأن الإيمان هو تصديق القلب واطمئنانه وثقته في الفكرة التي تُطرح على العقل.
هذه الثقة تبدأ صغيرة وتنمو إذا ما تم تغذيتها حتى تصل إلى ثقة مطلقة بلا أدنى ريب أو شك.
[الفارق بين القناعة العقلية بالفكرة وبين الإيمان بها]
قد تُناقش شخصًا ما في أمر من الأمور فيقتنع أمامك بما تقول لكنه لا يفعل مقتضيات هذا الاقتناع، كأن تُناقشه - مثلًا - في ضرورة وأهمية مقاطعة منتجات الدول التي أساءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعرفه كيف يُمكن لهذه المقاطعة أن تؤثر على هذه الدول، فيُبدي أمامك اقتناعه بما تقول بعد سلسلة من الاعتراضات والمناقشات، وبعد ذلك تجده لا يُقاطع تلك المنتجات، فما السبب في ذلك؟
السبب أنه وإن كان قد اقتنع بعقله إلَّا أن قلبه لم يطمئن اطمئنانًا كاملًا لما تقول، أي أنه لم يؤمن بما تقول {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}[المائدة: ٤١].
ومما لا شك فيه أن بداية الإيمان بالشيء هو الإقرار العقلي به، ولكن إن توقف هذا الإقرار عند حدود العقل، ولم يمتزج بالمشاعر، ولم تحدث الطمأنينة والثقة فيه، فقد ابتعد عن مفهوم الإيمان، ومن ثَمَّ فلن تظهر له ثمرة في السلوك، وهناك أمثلة كثيرة تؤكد هذا المعنى:
فدراسة أبحاث القضاء والقدر من كتب العقيدة وعلم الكلام، قد تصل بالمرء إلى الاقتناع بحقيقة القضاء والقدر، إلا أنها - في الغالب - لا تُنشئ إيمانًا حقيقيًّا به بحيث تظهر آثاره عند مواجهة الأقدار المؤلمة، وسبب ذلك أن أغلب هذه الكتب تُخاطب الفكر فقط، ولا تؤثر في المشاعر، وفي المقابل لك أن تقرأ القرآن وتنظر إلى طريقته في إقناع العقل وإلهاب المشاعر فيمتزج الفكر بالعاطفة وينشأ الإيمان - إن انتفت الموانع (١)، ومثال ذلك قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: ٢٣].
(١) هناك موانع للإيمان تندرج جميعها تحت سببين اثنين: الجهل والهوى، فالجهل بالحق وعدم معرفته وعدم وصوله للفرد بطريقة صحيحة هو السبب الأول، أما السبب الثاني وهو الهوى: فهو إما أن يكون بسبب الكبر واستعظام النفس أن تسمع من غيرها، أو بسبب حُبّ الدنيا والرغبة في الاستمتاع بها دون ضوابط أوتكاليف، أو خوفًا على النفس من تبعات الإيمان بالحق {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: ٥٠].