فإن انفعلت معه وتأثرت بحديثه عندما قصَّ قصة مؤثرة تؤكد المعنى الذي يطرحه كان وقت التأثر هو الوقت الذي زاد فيه الإيمان.
والمقصود بالانفعال والتأثر هو حركة المشاعر بأنواعها المختلفة من فرح واستبشار ورغبة ورهبة وشوق وإجلال وسكينة.
أي أن الخوف تأثر، والفرح تأثر، والشوق تأثر، و ... ، فالتأثر هو عنوان لتفاعل المشاعر مع ما يُطرح على العقل من أفكار.
معنى ذلك أننا يُمكننا معرفة الوقت الذي يزداد فيه الإيمان في قلوبنا وذلك حين تتجاوب مشاعرنا مع ما نسمعه من معانٍ دينية، أو مع العمل الذي نقوم به.
فحين يدخل المرء إلى الصلاة ولا تتجاوب مشاعره فيها (مشاعر الخضوع والخشوع) لله عز وجل فهذا معناه أن صلاته لم تقم بزيادة الإيمان في قلبه، أما إذا تأثر وانفعل مع دعائه في سجود الركعة الثانية - مثلًا - فإن هذا هو القدر الذي زاد فيه الإيمان - بإذن الله - .. وهكذا.
من هنا نقول بأنه ليست العبرة بكثرة الأعمال التي يقوم بها المرء، بل العبرة بمقدار تجاوب القلب معها وتأثره بها، وانفعال مشاعره معها ..
فوجود القلب مع العمل، أو حضوره، أو جمعه، أو تجاوبه، أو مواطأته للسان في الذكر .. كلها معان مترادفة «للتأثر» بصوره المختلفة.
[الإيمان والطاعة]
الإيمان يزداد بالطاعة .. نعم، ولكن شريطة أن يتحرك القلب معها - أي يتأثر - فإن لم تتحرك المشاعر لن يزداد الإيمان، ومن ثَمَّ لن يظهر أثر الطاعة على السلوك، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر عندما يتحرك القلب، وتنفعل المشاعر معها، فيؤدي ذلك إلى زيادة الإيمان لينتج عنه زيادة الورع والدافع الداخلي لفعل الخيرات وترك المنكرات.
فإن لم يتحرك القلب ويخشع في الصلاة، أصبحت تلك الصلاة حركة بالعضلات فقط، ومن ثَمَّ لا يظهر لها أثر إيجابي في السلوك، وهذا يُفسر لنا ظاهرة عدم وجود أثر للعبادات الكثيرة التي نؤديها على سلوكنا ومعاملاتنا.
لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «وأعوذ بك من صلاة لا تنفع» (١).
وقال ابن عباس: «ركعتان مقتصدتان في تفكُّر خير من قيام ليلة والقلب ساه».
فإحسان العمل - إذن - مقدم على الإكثار منه بالجوارح فقط.
وإحسان العمل يعني الاجتهاد في حضور القلب وتوجه مشاعره نحو الله عز وجل، وتستدعي كذلك موافقته للسنة.
فالعمل القليل مع حضور المشاعر أفضل من العمل الكثير بدون حضورها، أو حضورها بصورة قليلة محدودة.
بل إن الثواب المترتب على العمل يختلف من شخص لآخر حسب حركة مشاعره مع العمل؛ فلو أن رجلين يسيران في الطريق سويًّا وعُرض عليهما عمل خيري يستوجب منهما بذل ما يُمكنهما بذله من مال، وكان الأول فقيرًا، وكل ما يملكه عشرة دراهم وعليه أعباء معيشية لا تغطيها هذه الدراهم المعدودة، لكنه تجاوب مع العمل الخيري وشعر بأهميته، فدفعه حبه لله وطمعه في مثوبته إلى إخراج ثمانية دراهم من العشرة .. بَذَلها وهو يُدرك قدر العنت الذي قد يواجهه لتدبير نفقاته ونفقات عياله، وأما الرجل الآخر فهو موسر، عنده بضعة آلاف من الدراهم، فأخرج ألف درهم طمعًا في المثوبة، وحبًّا لله، لكنه لم يشعر بما شعر به الأول لأن الألف درهم لا يُشكل إخراجها عنده مشكلة كبيرة، فهل يستوي الاثنان في درجتهما عند الله؟
(١) أخرجه ابن حبان (٣/ ٢٩٣، رقم ١٠١٥)، والضياء (٦/ ١٥٦، رقم ٢١٥٣)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.