كان من الممكن أن تمر هذه الحادثة ولا يعلم بها أحد، فالناس يموتون ولا يدري أحد بماذا خُتِم لهم، ولكن الرب الودود الذي يُريد أن يُطمئن الجميع ويدفعهم للفرار إليه أنزل هذه الآية لينتفع بها الناس ويتفكروا في مغزاها، وما تدل عليه من سعة رحمة الله، ومدى حُبِّه لعباده، وأنه سبحانه ينتظر منهم أي بادرة صادقة للتوبة، فيُقبل عليهم ويقبلهم ويمحو كل سيء فعلوه.
نعم - أخي - هذا هو ربنا {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: ٢٧].
ألم تر إلى ربك كيف يُحبُّك؟
إننا جميعًا نتمنى محبة الله عز وجل لنا، ولو تفكَّرنا وتأملنا في طريقة معاملة الله لنا لتأكدنا أنه سبحانه يُريد لنا وللناس جميعًا الخير، وأن محبته لنا سبقت وجودنا، وأن مُراده دخول الجميع جنته {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: ٢٥].
وكلما تفكَّرنا في جوانب حُب الله لعباده ازددنا حُبًّا له، وحياء منه سبحانه، وأصبحت أُمنيتنا هي: كيف نُحب الله كما يُحبنا، وكيف نتودد إليه كما يتودد إلينا؟
[خلقنا في أحسن تقويم]
الله عز وجل هو الذي خلقنا من العدم، ولم نكن قبل ذلك شيئًا مذكورًا، وقد أوجَدنا سبحانه في أحسن صورة {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: ٦٤].
كرَّمنا على جميع خلقه، ونفخ فينا من روحه، وأسجد لأبينا ملائكته، وهيأ الكون كله لخدمتنا بلا مقابل، فالأرض تُخرج لنا الطعام، والسماء تُنزل الماء، والشمس تمدنا بالدفء والضياء، والقمر يُعرفنا الأيام والشهور .. الدواب تحملنا، والنحل يمدنا بالعسل، والأنعام تُخرج لنا اللبن، والأزهار تُشعرنا بالبهجة {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النحل: ١٠ - ١٣].
إلهٌ قيُّوم:
الله عز وجل يقوم على شؤون عباده جميعًا، يرعانا بالليل والنهار .. يقبض أرواحنا فننام ونرتاح، ثم يُعيدها لنا فنستيقظ ونستأنف حركتنا في الحياة .. هكذا كل يوم {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: ٢٣].
يمدنا بمقوِّمات الحياة مع كل طرفة عين .. يمد أجهزة الجسم المختلفة بالقدرة على القيام بوظائفها .. يمد اللسان بالقدرة على الكلام، والعين بالقدرة على الرؤية، والأنف بالقدرة على الشم، والأذن بالقدرة على السمع، واليد بالقدرة على الحركة والبطش، والرجل على المشي وحمل الجسم، والقلب بالقدرة على ضخ الدم حوالي سبعين مرة في الدقيقة الواحدة .. يمد كل خلية في الجسم - كل طرفة عين - بأسباب حياتها {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر} [يونس: ٢٢].
فنحن جميعًا من الله خَلقًا وإيجادًا، وبالله رعاية وإمدادًا، فلا حول ولا قوة إلا به سبحانه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: ٥٣].
[حليم ستير]
ربنا حليم ستير، يرانا نعصيه مرات ومرات فلا يفضحنا، ولا يهتك سترنا، بل يسترنا ويحلم علينا، ويُمهلنا علَّنا نتوب {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: ٤٥].