للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جاء رجل فقعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يَكذِبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا فيهم؟!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة يُحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم .. اقتُص لهم منك الفضل، فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» أما تقرأ قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء/٤٧].

فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار (١).

شدة الورع:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر غلام يُخرج له الخراج وكان أبو بكر يُخرج من خراجه فجاء يومًا بشيء ووافق من أبي بكر جوعًا، فأكل منه لقمة قبل أن يسأل عنه، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟، قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه (٢) .. فماذا فعل أبو بكر عندئذ؟! فعل فعلا عجيبًا .. أدخل أصبعه في فمه فقاء كل شيء في بطنه ..

وروى ابن جرير الطبري في تاريخه، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا، ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئًا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا: من أنت؟، فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني: ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلًا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس (٣).

ومن ثمار الإيمان:

ثالثًا: الزهد في الدنيا

من تعريفات الزهد: «انصراف الرغبة في الشيء مع وجوده»، ومثال ذلك: الطفل الذي يسعد سعادة غامرة حين يلعب بالدُمى، ويحرص على اقتنائها، ويحلم بشراء الجديد منها، ولكن عندما يكبر هذا الطفل بضع سنين تجد حرصه وشغفه وفرحه بهذا اللعب يقل ويقل إلى أن يزول وتنصرف رغبته عنها فيصير زاهدًا فيها ولا يبالى بوجودها إذا ما وُجدت، ولا يحزن على ضياعها إذا ما فُقدت.

وحال الناس مع الدنيا - بدون الإيمان - كحال الأطفال مع لِعَبهم، ولكي يزهدوا فيها لابد من نمو الإيمان في قلوبهم.

فعندما يقوى الإيمان في القلب يقل تعلق صاحبه بالدنيا، ورغبته فيها، وحرصه عليها.

نعم، هو لن يتركها ببدنه بل يتركها بقلبه، فالزهد حالة شعورية يعيشها المرء كانعكاس لنمو الإيمان الحقيقي في قلبه، وهو لا يستلزم الفقر، ولا يتنافي مع الغنى.

الزاهد في الدنيا لا ينشغل بها كثيرًا إذا ما وُجدت بين يديه، فعلى سبيل المثال: قد يتوفر لديه العديد من الملابس فإذا ما أراد الخروج من منزله فإنه لا يقف أمامها طويلًا إنما يرتدي ما امتدت إليه يده، وهو حين يفعل ذلك يفعله بتلقائية تعكس حالة قلبه الإيمانية.


(١) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (٥/ ٣٢٠، رقم ٣١٦٥) وأحمد (٦/ ٢٨٠، رقم ٢٦٤٤٤)، والبيهقي في شعب الإيمان (٦/ ٣٧٧، رقم ٨٥٨٦)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (٢/ ٢٨٠).
(٢) أخرجه البخاري (٣/ ١٣٩٥ برقم ٣٦٢٩).
(٣) نقل هذا الخبر سيد قطب في ظلال القرآن ١/ ٥٠٥، نقلًا عن تاريخ الطبري ٤/ ١٦.

<<  <   >  >>