كذلك حال الناس مع الدنيا، فهم يلهون بطينها ويتنافسون عليها، ويفرحون بتحصيل أي شيء منها، ويظنُّون أن هذا هو غاية السعادة، فإذا ما استيقظ الإيمان في قلوب بعضهم، واستحكمت اليقظة منها، فإنهم - وبصورة تلقائية - لا يجدون في أنفسهم رغبة في مشاركة من حولهم اللهو بهذا الطين، وتنصرف رغبتهم - شيئًا فشيئًا - عنها .. هذا التحول ليس بأيديهم، بل هو انعكاس لطبيعة مرحلة «النمو الإيماني» الذي ارتقوا إليه، كحال من انتقل إلى مرحلة البلوغ من الأطفال عندما يأتيه أبوه بالدُمية التي طالما تاقت نفسه إليها في الصِغَر، فإذا به يتعامل معها بدون لهفة ولا شغف، وسُرعان ما يتركها ولا يُبالي بها.
وليس معنى انصراف الرغبة عن الدنيا هو هجرها وتركها وعدم التعامل مع مفرداتها، بل إن الفرد في هذه المرحلة يتعامل معها على أنها مزرعة للآخرة، وأنها مُسخَّرة له لتساعده في إنجاح مهمة وجوده عليها، ولا بأس من التمتع بها بالقدر الذي لا يُنسيه تلك المهمة.
أو بمعنى آخر: تخرج الرغبة في الدنيا، والشغف بها، والحرص واللهفة عليها من قلبه، فيتعامل معها بعقله قبل مشاعره، وبما يُحقق له مصلحته الحقيقية في الدارين، ويمكِّنه من نفع نفسه وأمته فيكون ممن يترك فيها أثرًا صالحًا، وبذلك تُصبح الدنيا في يده، يتحكم فيها ولا تتحكم فيه.
[النمو الإيماني والتعامل مع المال]
المال هو أهم رمز «للدنيا»، والكثير من الناس يظنُّون أنهم يستطيعون من خلال وجوده معهم أن يُحققوا جميع أمانيهم ويجلبوا لأنفسهم السعادة، ويتمتعوا بمباهج الحياة كيفما شاءوا، لذلك يُشكِّل المال المادة الأساسية للطمع والتنافس والحسد بين الناس.
ولأن الشيطان يعلم ذلك، ويعلم طبيعة النفس وحبها الشديد للمال، وشُحِّها به؛ فإن من مداخله الرئيسية على الناس: إزكاء هذه الطبيعة فيهم، وتخويفهم من المستقبل المجهول، ومن احتمالية حدوث الفقر ... {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: ٢٦٨].
فإذا ما استيقظ الإيمان - يقظة حقيقية متمكنة من القلب - كان من أهم علامات التغيير الذي يحدث للمرء: اختلاف طريقة تعامله مع المال.
نعم، في البداية لا يكون التغيير كبيرًا، فالمال من أحب الأشياء للنفس {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: ٢٠].
إلا أن النهم والشغف بالمال ستقِل ثائرته - نسبيًّا - في ذات العبد، وكلَّما نمَا الإيمان أكثر انعكس ذلك على طريقة تعامله معه، فيزداد إنفاقه في أوجه الخير المختلفة، ويسهل عليه اتخاذ قرار الإنفاق لاسيما في أوقات العُسر والاحتياج {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: ١٣٤].
وشيئًا فشيئًا ينقطع تعلق القلب بالمال، ومن ثَمَّ يصير حُرًّا منه، لا عبد له.
ومن مظاهر التغيير في هذا الجانب: نقص ملحوظ يشعر به المرء في فرحه عندما يُفاجأ بزيادة رصيده من المال، أو عند الفوز بصفقة رابحة، وكذلك نقص ملحوظ في حزنه عند فقده جزء من ماله، أو عند ضياع مصلحة دنيوية كانت في متناول يده، وليس معنى هذا أن مشاعر الفرح والحزن لا تتحرك لديه عند إقبال المال أو إدباره ولكنه انفعال لحظي سرعان ما يزول.
ومن المظاهر العملية للتغيير في هذا الجانب: السماحة في البيع والشراء، فتجده لا يُدقق في سعر الشيء ليشتريه بأرخص الأسعار، أو يُغالي فيه ليبيعه بأعلاها.