للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان لي جار من الأنصار؛ فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يومًا، وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيول لتغزونا (١)

لقد كان القرآن هو المنبع الأول والمنهج المؤثر الذي قام بتربية الصحابة، ورفعهم إلى أعلى الآفاق بعد أن كانوا في أسفل السفوح، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بوظيفة المعلم والمربي الذي يتعاهد فعل القرآن فيهم، ويُعمق معانيه في نفوسهم، ويشرح لهم ما أُشكل فهمه عليهم .. كان صلى الله عليه وسلم هو المُبلغ عن الله، والمُربي والقدوة العملية لتمام وكمال العبودية لله عز وجل ..

إنهم صُنِعوا ها هنا:

عندما تحدثنا - بفضل الله - في الفصل الثاني عن ثمار الإيمان؛ كانت الأمثلة من جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا جيلًا من الربانيين العابدين الزاهدين المجاهدين المتواضعين، ليكونوا بمثابة أعظم وأصدق شهادة لقوة تأثير القرآن، وأكبر دليل إثبات لقدرته - بإذن الله - على إعادة صياغة وتشكيل الإنسان على النحو الذي يُحبه الله ويرضاه مهما كان انحرافه وضلاله ..

وفي هذا المعنى يقول سيد قطب رحمه الله:

لقد كنت وأنا أُراجع سيرة الجماعة المسلمة الأولى أقف أمام شعور هذه الجماعة بوجود الله - سبحانه - وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم، فلا أكاد أُدرك كيف تم هذا؟!

كنت أُدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم، ولكني لم أكن أُدرك كيف تم هذا حتى عُدت إلى القرآن أقرؤه على ضوء موضوعه الأصيل: تجلية حقيقة الألوهية وتعبيد الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها.

وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله!

أدركت - ولا أقول أحطت - سر الصنعة عرفت أين صُنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ البشرية وكيف صُنع!

إنهم صُنعوا هاهنا! صُنعوا بهذا القرآن! بهذا المنهج المُتجلي فيه! بهذه الحقيقة المتجلية في هذا المنهج! حيث تُحيط هذه الحقيقة بكل شيء، وتغمر كل شيء، ويصدر عنها كل شيء، ويتصل بها كل شيء، ويتكيف بها كل شيء .. بهذا كله وجدت - في الأرض وفي دنيا الناس - حقيقة «الربانية» متمثلة في أُناس من البشر.

وُجد «الربانيون» الموصولون بالله، العائشون بالله، ولله، الذين ليس في قلوبهم، وليس في حياتهم إلا الله ..

وحينما وُجدت حقيقة «الربانية» هذه في دنيا الناس، ووُجد الربانيون الذين هم الترجمة الحقيقية لهذه الحقيقة .. حينئذ انساحت الحواجز الأرضية، والمقررات الأرضية، والمألوفات الأرضية، ودبَّت هذه الحقيقة على الأرض، وصنع الله ما صنع في الأرض وفي حياة الناس بتلك الحفنة من العباد .. وبطلت الحواجز التي اعتاد الناس أن يروها تقف في وجه الجهد البشري وتَحُدُّ مداه، وبطلت المألوفات التي يقيس بها الناس الأحداث والأشياء .. ووُجد الواقع الإسلامي الجديد، ووُلد معه الإنسان الحقيقي الجديد (٢).

من هنا نُدرك كيف كان حزن الصحابة على انقطاع الوحي، وليس أدل على ذلك مما رواه أنس رضي الله عنه عندما قال:


(١) متفق عليه، أخرجه البخاري (١/ ٤٦ برقم ٨٩، ٥/ ١٩٩١ برقم ٤٨٩٥)، ومسلم (٤/ ١٩٢ برقم ٣٧٦٨).
(٢) مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب، ص ١٩٢، ١٩٣ باختصار، دار الشروق - مصر.

<<  <   >  >>