للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول ابن القيم:

مَن تأمَّل الشريعة في مقاصدها ومواردها عَلِم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميَّز المؤمن من المنافق إلَّا بما في قلب كل واحد منهما؟!

وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان (١).

الإسلام بدأ مشاعر ثم شعائر ثم شرائع (٢):

من هنا يتضح لنا أهمية الاهتمام ببناء الإيمان الحقيقي الذي يتناول جميع المشاعر، على ألا يُهمل العمل الصالح، بل يُقرن دائمًا بأعمال القلب، ويجتهد المرء في تحسينه وحضور المشاعر معه، فمن فعل ذلك فهو السابق حقًّا.

فالإيمان أولًا والعمل الصالح ثانيًا، لتكون النتيجة: تحسُّن ملحوظ في الخُلق والسلوك، والمتأمل في التربية الربانية للجيل الأول يجد أنها كانت تُركز على أعمال القلوب، وزيادة الإيمان في القلب قبل تشريع العبادة، فكما قيل بأن الإسلام قد بدأ «مشاعر، ثم شعائر، ثم شرائع».

إنه لأمر عجيب أن تُفرض الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج، ويُفرض الصيام وسائر التشريعات في المدينة، وتُفرض الحدود في السنوات الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم .. فما الذي كان يفعله المسلمون الأوائل في مكة إذن؟!

ماذا كان يفعل الواحد منهم عندما يستيقظ من نومه ولم يكن عليه وقتها تكاليف يؤديها أو محظورات يجتنبها؟

تصوَّر وضع امرأة مسلمة في السنوات الأولى للبعثة في شهر «رمضان»، تستيقظ من النوم في الصباح فتشرب بعضًا من الخمر، وتخرج لحاجتها وهي مكشوفة الشعر.

ومع ذلك فلم يكن عليها أي حرج شرعي لأن الصيام والحجاب لم يُفرضا، والخمر لم يُحرَّم.

نعم، كان هذا هو الواقع الذي عاشه المسلمون الأوائل .. فمع عدم وجود تكاليف إلا أنه كان يتم في هذه الفترة أخطر مرحلة من مراحل بناء الفرد المسلم، وهي مرحلة تأسيس القاعدة الإيمانية، وتعبيد المشاعر لله سبحانه، لتأتي الشعائر بعد ذلك فتُحسِن التعبير عن هذه المشاعر.

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول الأمر: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، ولو نزل أول الأمر: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نترك الخمر أبدًا .. أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: ٤٦]، وهي من سورة القمر، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده في المدينة (٣).

وليس معنى هذا أن نترك العبادة، أو نقول: لابد أن نفعل مثل ما فُعل مع الصحابة؛ فلقد اكتمل التشريع كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: ٣].

فنحن مطالبون بأداء كل ما افترضه الله علينا، ومع ذلك فلابد من التركيز على القلب، وعلى زيادة الإيمان وتعبيد المشاعر لله، وأن نُعطي هذا الأمر القدر الكافي من الاهتمام، وبخاصة في بداية تكوين الفرد المسلم لتُصبح العبادة مؤثرة تزيد الإيمان في القلب، ومن ثَمَّ تُقرب صاحبها إلى الله أكثر وأكثر، ويظهر أثرها في السلوك.


(١) بدائع الفوائد لابن القيم (٤/ ٢٨٧).
(٢) هذه الفقرة تم نقل أغلبها من كتاب «حقيقة العبودية» للمؤلف ببعض التصرف من ص ٥٢ إلى ص ٥٥.
(٣) أخرجه البخاري (٤/ ١٩١٠، برقم ٤٧٠٧).

<<  <   >  >>