للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة، والتعظيم والإجلال، وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه، حتى تكون صورة العملين واحدة، وبينهما في الفضل ما لا يُحصيه إلا الله تعالى.

وتتفاضل أيضًا بتجريد المتابعة، فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلًا لا يحصيه إلا الله تعالى (١).

[إنما الأعمال بالنيات]

فالعبرة بما في القلوب من معاني العبودية لله، والعبرة كذلك باستحضارها مع العمل، وكلما كان توجه المشاعر لله - قَبل العمل وفي أثنائه - أشد، كانت درجته ومثوبته عند الله أكبر، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (٢).

فالنية: هي القصد والتوجه، وعلى قدر توجه القلب نحو العمل حبًا لله، وابتغاء مرضاته، وطمعًا في مثوبته يكون الفضل والأجر منه سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: ٢٦٥]. فالوابل: هو المطر الشديد، والطَّل: هو الرذاذ الخفيف والفارق بينهما في الأثر كبير على الزرع، كالفارق بين من يشتد إخلاصه وتوجهه لله وابتغاء مرضاته عند الإنفاق وبين من لم يشتد ذلك عنده ..

فالعبرة - إذن - بالنيات لا بصور الأعمال.

لذلك نجده صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على إخلاص الدعاء عند صلاة الجنازة حتى يكون هذا أنفع لصاحبه في الفضل والمثوبة: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» (٢).

وإليك - أخي القارئ - التحديز النبوي الشديد من حضور البدن للعمل مع عدم حضور القلب فيه .. قال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام، يُتلى عليهم كتاب الله فلا يدرون ما يُتلى منه مما تُرِك، هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل، فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم، ولا يقبل الله من عبد عملًا حتى يشهد بقلبه مع بدنه» (٣).

[السباق سباق قلوب]

عندما نقرأ في سيرة التابعين وتابعيهم من سلف هذه الأمة نجد أن منهم من كان يُصلي الفجر بوضوء العشاء سنوات وسنوات، ويظل طيلة الليل في صلاة، ومنهم من كان يصوم صيام داود عليه السلام، ومنهم، ومنهم .. ، فإذا ما نظرنا لسيرة السابقين الأولين من جيل الصحابة رضوان الله عليهم نجد أنهم من الناحية الكَمِّية أقل منهم عبادة، ومع ذلك فقد فاقوهم في الرتبة والمنزلة.

قال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا: وبم ذاك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة (٤).

بل إن أبا بكر الصديق لم يسبق الصحابة بكثرة العمل، بل بما في قلبه من إيمان.

قال بعض السلف: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره.


(١) المنار المنيف لابن القيم (١/ ٣٣).
(٢) أخرجه البخاري (١/ ٣، رقم ١)، ومسلم (٣/ ١٥١٥، رقم ١٩٠٧).
(٢) حديث صحيح: أخرجه: أبو داود (٣٢٠٠)، والنسائي في " الكبرى " (١٠٩١٧)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (٦٦٩).
(٣) حديث ضعيف: أورده ابن الأثير في جامع الأصول (٥/ ٦٤٨)، وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (١١/ ٥٢ برقم ٥٠٥٠).
(٤) أخرجه الحاكم في المستدرك (٤/ ٣٥٠ برقم ٧٨٨٠) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشُعب (١٣/ ١٨٤ برقم ١٠١٥٢).

<<  <   >  >>