أو بمعنى آخر: لا ينبغي علينا أن نجعل أعمالنا الإيمانية رهن المؤثرات القوية التي تستثير المشاعر بصورة مؤقتة، ثم يختفي أثرها بمرور الوقت، وهذا لن يكون إلا إذا أصبح الإيمان مستقرًا في القلب، وأصبحت المشاعر في حالة من التأهب للتأثر بأدنى مؤثر وبأقل تذكرة.
فكلما قوي الإيمان في القلب واستقر فيه كانت استثارته أسرع وأدوَم، بعكس الإيمان الضعيف الذي يحتاج - لكي يُعبر عن نفسه - لمؤثر قوي، يدفع صاحبه للعمل الصالح بصورة مؤقتة.
ولأن الحياة كثيرة الأحداث والتقلبات، فإنها تحتاج منَّا إلى إيمان قوي مستقر في القلب يدفعنا دومًا إلى فعل الخيرات وترك المنكرات في كل وقت وتحت أي ظرف، وليس إيمانًا ضعيفًا يحتاج لكي يظهر إلى مؤثر ضخم وحدث جلل؛ وفي الوقت نفسه، فإن هذا الإيمان الضعيف سرعان ما يزول أثره الإيجابي على السلوك بزوال المؤثر الذي استثاره، ومثال ذلك: البيت الذي لا سقف له فإن أهله يتعرضون بصورة دائمة لحر الشمس ولهيبها، لذلك فأسعد أوقاتهم تلك التي تأتي فيها سحابة فتظللهم، وتحُول بينهم وبين الشمس، ولكن - من المعتاد - ألا يستمر ظل السحابة طويلًا، فسرعان ما يزول بتحركها وابتعادها عنهم، لتعود الشمس بحرارتها ولهيبها إليهم .. ومن البدهي أنهم إذا رغبوا في ظل دائم، ووقاية مستمرة من الشمس، فعليهم أن يُشيِّدوا سقفًا للبيت بدلًا من أن ينتظروا ظهور السُحب، فظل السحاب عارض سرعان ما يزول أثره، أما ظل السقف فهو دائم لأنه مستقر فوقهم.
كذلك حال الإيمان الناشئ عن أمور عارضة، وحاله الناشئ عن استقراره في القلب.
[لماذا لا يظهر أثر الإيمان في كل الأوقات والأحوال؟]
كان (زيد) في المسجد يستمع إلى موعظة، وكانت الموعظة مؤثرة، وَجِلَت منها القلوب، وذرفت منها العيون، وتلا الموعظة صلاة العشاء وفيها قرأ الإمام بآيات من سورة (ق) تتحدث عن الموت وما بعده من أحداث، فعلا نحيب المصلين، واشتد بكاؤهم، وانتهت الصلاة، وانطلق (زيد) خارجًا من المسجد، وذهب ليأخذ نعله فلم يجده .. بحث عنه في كل مكان فلم يعثر له على أثر، انتابته حالة من الجزع والضيق، وتلفَّظ بألفاظ غير لائقة، وغادر المسجد حانقًا متذمرًا ..
لقد كان زيد منذ دقائق يبكي من خشية الله، فما الذي تغير حتى يظهر بهذه الحالة البعيدة عن الإيمان؟ لماذا لم تدفعه الحالة الإيمانية التي كان يعيشها إلى التعامل الهادئ مع المصيبة التي أصابته؟
فإن قلت: لأن الإيمان غير مستقر في قلبه وأن بكاءه وتأثره بالموعظة والصلاة كان عارضًا، فلما زال أثره انكشف إيمانه ..
هذا التعليل قد يكون صحيحًا لو كانت المدة الزمنية بين الصلاة وبين سرقة نعله طويلة، أمَا والأمر لم يتعد بضع دقائق لا تسمح بزوال حالته الإيمانية، فإن السبب غير ذلك.
ولعل ما يكشف لنا سبب هذا التعارض هو تذكُّر ما قيل في الصفحات السابقة بأن الإيمان يتناول جميع المشاعر، بمعنى أن الحالة الإيمانية التي كان يعيشها (زيد) في الموعظة والصلاة كانت تُعبِّر عن بعض مشاعر القلب وليس عن كل مشاعره.
لقد كانت تُعبِّر عن مشاعر الخوف والرهبة، في حين ظلَّت باقي المشاعر كما هي دون استثارة، ومن ثَمَّ عندما تعرض لموقف السرقة، لم يتعامل معه تعاملًا إيمانيًّا مناسبًا لأن الإيمان في اتجاه مشاعر الطمأنينة والسكينة ضعيف، ولم يتم استثارته، وهذا يُفسِّر لنا - إلى حد بعيد - هذا التناقض بين حالته الباكية، ورد فعله الجَزِع.