للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها .. فلما انتهينا إليها، بكت، فقالا لها: ما يُبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما أبكى أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء! فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها» (١).

[تأثر الصحابة بالقرآن]

ذاق الصحابة رضوان الله عليهم حلاوة الإيمان من خلال القرآن، وأدركوا قيمته، فأقبلوا عليه وانشغلوا به، وانجذبت مشاعرهم نحوه لدرجة الاستغراق والهيمنة:

فهذا عمر بن الخطاب يسمع رجلًا يقرأ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: ٧، ٨]، فجعل يبكي حتى اشتد بكاؤه، فقيل له في ذلك، فقال: دعوني، إني قد سمعت قَسَمَ حقٍ من ربي (٢).

وكان عبد الله بن عباس يُقرئ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب .. قال عبد الله بن عباس: لم أر أحدًا يجد من القشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة (٣).

وفي يوم من الأيام قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر ثابت بن قيس بن الشماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح؟!

قال: «فلعله قرأ بسورة البقرة»، فسُئل ثابت فقال: قرأت سورة البقرة (٤).

نزل رجل من العرب على عامر بن ربيعة، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الرجل إليه بعد ذلك، فقال: إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واديًا ما في العرب أفضل منه، ولقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك.

فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: ١] (٥).

[المصدر المتفرد]

إذن فالقرآن الكريم هو المصدر المتفرد والوسيلة العظيمة التي صنعت الجيل الأول، ومن ثَمَّ فهو المؤهل للقيام بهذه الوظيفة معنا إن أحسنَّا التعامل معه.

هذا من ناحية الواقع العملي، أما من ناحية الشروط التي تم الحديث عنها في الصفحات السابقة والخاصة ببناء القاعدة الإيمانية، فإن جميعها متحقق في القرآن وزيادة وزيادة، وكيف لا والذي أنزله هو رب العالمين، العالم باحتياجاتهم .. الذي يُريد لهم الخير والقرب الدائم منه {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: ٦].

إن طريقة القرآن في زيادة الإيمان، وبناء قاعدته في جميع المشاعر طريقة فريدة لا يُمكن للعقل البشري القاصر أن يُحيط بها، ويكفيك في ذلك أن تتعرف على تأثير آيات القرآن عندما تُتلى على من يُحسن استقبالها {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: ١٠٧ - ١٠٩].


(١) أخرجه مسلم (٧/ ١٤٤ برقم ٦٤٧٢).
(٢) رواه ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء.
(٣) الانتصار للقرآن للباقلاني (١/ ٢٠١)، ومختصر قيام الليل لمحمد بن نصر (١٤٥).
(٤) فضائل القرآن لأبي عبيد ص ٦٦، وابن كثير في فضائل القرآن، وقال: إسناده جيد.
(٥) تفسير ابن كثير (٥/ ٣٣٢)، والدر المنثور للسيوطي (٥/ ٦١٥)، وروح المعاني للألوسي (١٧/ ٢).

<<  <   >  >>