وكلما نما الإيمان أكثر نقص التعلق بالناس، والطمع فيهم حتى يصل المرء لدرجة الاستغناء القلبي عنهم، أو بمعنى آخر: ينقطع تعلق القلب بهم من حيث النفع والضر.
نعم هو قد يطلب مساعدتهم في بعض الأعمال، لكنه يتعامل معهم باعتبار أنهم من جملة الأسباب التي قد يأخذ بها، أما الذي يُحرك الأحداث ويُنشئ النتائج فهو الله عز وجل، وما البشر إلا ستار لإظهار قدرته وربوبيته.
وكذلك فهو قد يأخذ منهم ما يُعطونه إياه بطيب نفس، ولكن يأخذه بمشاعر من يأخذ من الله عن طريقهم، وأنهم مجرد أدوات لتوصيل رزق ربه - سبحانه - إليه.
وهكذا تظهر بالتدريج ثمار الاستغناء عن الناس تبعًا لنمو الإيمان الحقيقي في القلب.
[النمو الإيماني والتعامل مع أحداث الحياة]
الحياة الدنيوية ما هي إلا مشهد عظيم تتجلى فيه مظاهر صفات الله عز وجل {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: ٥٣].
والهدف العظيم من وجود المخلوقات بهذه الكثرة على اختلاف أشكالها وألوانها وأوصافها هو الدلالة على الله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: ١٦٤].
والهدف كذلك من تقلبات أحداث الحياة من سرَّاء وضرَّاء، وعطاء ومنع، وصحة ومرض، إلخ؛ هو إظهار قدرته سبحانه وقيُّوميته، وعزته، ورحمته، وحكمته ... وسائر صفاته.
والإنسان هو المخاطب بهذا كله، وعليه أن يتعرف على ربه من خلال هذه المشاهد والأحداث التي تحدث أمامه، ويُشاهدها دومًا {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: ٦٥].
لكن ظلمات الهوى والانكفاء نحو طين الأرض قد تحُول بينه وبين الرؤية الصحيحة والتحليل الحقيقي لهذه المشاهد والأحداث {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: ١٠٥].
فإذا ما استيقظ الإيمان؛ فإنه في البداية يكون بمثابة بصيص من النور يظهر في القلب يجعله ينتبه - بعض الشيء - لِما يجري حوله، وبخاصة في الآيات الكبيرة التي يرسلها الله عز وجل.
فإذا ما نما الإيمان أكثر، قوي نور البصيرة أكثر لتزداد الرؤية العامة وضوحًا، ويزداد ربط الأحداث والمشاهد بالله عز وجل.
نعم، من المتوقع ألا تكون هذه الرؤية حاضرة في كل الأوقات، بل ستكون نسبتها محدودة، ولكنها ستزداد مساحتها - بإذن الله - بمرور الوقت وازدياد النمو الإيماني، لتسيطر على فكر العبد ومشاعره، فتجعله يعيش بكيانه في حقيقة التوحيد، فيَعْبُر من المشاهدة إلى شهود صفات الله عز وجل وهي تعمل، فيربط كل ما يحدث أمامه وكل ما يشاهده بالله عز وجل {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: ٦٣، ٦٤].
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: ١٧].