فهذا خطاب يُناقش العقل بالحجة ويتحدَّاه حتى يُقر بالعجز فيقتنع بصدق الرسالة وأنها من عند الله، لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، بل نجد الآيات التي تتلوها تُخاطب المشاعر حتى يحدث المزج بين الفكر والعاطفة {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: ٢٤].
وخلاصة القول في هذه المسألة بأنه ليست العبرة فقط بتصديق العقل واقتناعه بالشيء الذي يراه أو يسمع عنه، بل لابد من أن يُصاحب ذلك تصديق قلبي، أي: اطمئنان وثقة ورضا بهذه المعلومة.
انظر إلى هذا التسلسل الواضح للسلوك الإرادي (إصغاء من العقل للمعلومة، ثم تصديق واقتناع بها ثم طمأنينة ورضى قلبي يدفع للسلوك) وذلك في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: ١١٢، ١١٣].
[شمول معنى الإيمان]
والجدير بالذكر أن الإيمان كلمة عامة تشمل كل تصديق واطمئنان وثقة قلبية بأي شيء يقتنع به العقل وإن كان باطلًا {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: ٥١]، {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: ٧٢].
لذلك نجد تضحيات عظيمة من بعض أصحاب الأفكار الباطلة في سبيل نشر دعوتهم وإعلاء رايتهم، فهم يفعلون ذلك بدافع إيمانهم القوي بهذه الأفكار.
بل إن هذا الأمر يشمل أمور الدنيا كذلك، فالذي يذهب لطبيب ما ويُفضّله على غيره، فإنه يفعل ذلك بدافع ثقته فيه أو بمعنى آخر: إيمانه به، وكذلك الذي يقوم بإصلاح سيارته عند شخص ما دونًا عن غيره، و ... إلخ.
[مفهوم الإيمان بالله]
فإن أردنا أن نُخصص مفهوم الإيمان العام على «الإيمان بالله عز وجل»، فيكون الإيمان بالله هو الثقة والطمأنينة فيه سبحانه .. في قدرته المطلقة، وقيُّوميِّته الدائمة، وقوته غير المُتناهية، وعلمه الذي أحاط بكل شيء، وحكمته العظيمة، وسعة حلمه، وكرمه، و ... .
وكلما ازداد الإيمان بصفاته سبحانه، أو بمعنى آخر: كلما ازدادت الثقة في هذه الأسماء والصفات؛ كُلَّما انعكس ذلك على تعامل العبد معه، بمعنى أنه كلَّما ازدادت الثقة في الله «الحكيم» ازدادت حالة الرضا عند العبد، وكلَّما ازدادت الثقة في قيُّوميِّة الله وإحاطته بكل شيء ازدادت حالة التقوى والتوكل على الله.
وهكذا يكون انعكاس زيادة الثقة (الإيمان) بالله وبأسمائه وصفاته على القلب هو مزيد من العبودية له من تقوى، وحب، وتوكل، ورغبة ورهبة، وإنابة، وتعظيم، ومهابة.
ونفس المعنى ينطبق على جميع أركان الإيمان، فكلَّما ازداد الإيمان بالبعث (الثقة في حدوثه) كلما زاد تشمير العبد في الاستعداد له ... وهكذا.