الفصل الرابع
حقيقة الإيمان
رأينا فيما سبق كيف أن للإيمان آثارًا عظيمة تنال الفرد والأمة، كما تم - بفضل الله - الحديث عن مراحل النمو الإيماني، وأهداف التربية الإيمانية ليبقى السؤال:
وكيف لنا أن نُحقق هذه الأهداف ونرى هذه الآثار؟
هل المطلوب لكي نتمتع بثمار الإيمان أن نؤدي الصلاة على وقتها، وأن نُطيل المكث في المسجد، ونُكثر من القيام بالأعمال الصالحة المختلفة؟
مع الأهمية القصوى لهذه الأعمال إلا أننا نُشاهد من يقوم بها أو ببعضها، ولا نرى آثارًا مثل التي ذُكرت سابقًا أو حتى قريبة منها، بل قد نجد العكس .. قد نجد شخصًا يحافظ على أداء الصلوات في المسجد، ويُصلي النوافل، ويُكثر من ذكر الله بلسانه، ومع ذلك تجده شديد الحرص على ماله، يحسب كل شيء بأدق تفاصيله .. يُفكر دومًا في تحصيل حقِّه أولًا قبل حقوق الآخرين، شديد التركيز مع الدنيا، إذا ذهب لشراء شيء ما تجده - في الغالب - ينتقل بين الحوانيت للبحث عن الأرخص ثمنًا، فإذا ما استقر على حانوت ما، تجده يدخل في صراع مع البائع لتخفيض الثمن إلى أقصى ما يُمكن تخفيضه.
وإذا ما كان صاحب عقار تجده يتعامل مع المستأجرين معاملة جافة غليظة، ويجتهد في التنصل من حقوقهم عليه.
قد يُعامل زوجته وأولاده معاملة حادَّة وجافة، فيُحاسبهم على كل شيء، ويُدقق معهم في كل صغيرة وكبيرة.
يُصاب بالفزع والهلع إذا ما أُصيب ماله بخسارة ولو طفيفة، أو ضاعت من بين يديه صفقة رابحة .. يحسد الآخرين على فضل الله عليهم، وفي المقابل تجده يخاف من الحسد خوفًا شديدًا، فلا يكاد يُظهر فضل ربه عليه وإن اضطره ذلك للكذب.
وليس هذا خاصًّا بالأغنياء فقط، فالفقراء ومتوسطوا الحال كذلك قد تجد فيهم بعض التناقض بين عباداتهم الظاهرة وبين سلوكياتهم ومعاملاتهم، ومن ذلك: شدة حرصهم على الدنيا، والحزن على فوات شيء يسير منها، والتلهُّف عليها، وكثرة التفكير في المستقبل.
وينكشف حجم الإيمان الضعيف أكثر وأكثر عند المساس بمصالحهم الدنيوية، فلا غضاضة من الكذب، وعدم الوفاء بالعهود والوعود إذا كان هذا سيحقق لهم نفعًا أو يصرف عنهم ضرًّا.
[الدنيا والمال]
مما لا شك فيه أن المحافظة على أداء الصلوات من مظاهر الإيمان، ولكن عندما لا تتواكب هذه المظاهر مع هوان الدنيا في عين صاحبها، وضآلة حجمها في قلبه، فإن ذلك يُعد بمثابة مؤشر خطير لعدم تمكُّن الإيمان من قلبه، وعدم وصوله لمرحلة «استحكام اليقظة».
فإن قلت: أليس الإيمان هو الذي دفعه للصلاة؟!
نعم، الذي دفعه لأداء الصلاة - بجوارحه - هو القدر المحدود من الإيمان في قلبه، وفي المقابل فإن الذي يمنعه من التفاعل معها والتأثر بها هو محدودية هذا الإيمان وعدم يقظته، والدليل على ذلك هو عدم ظهور آثار أدائه للصلاة على سلوكه بصورة ملحوظة.
ونفس الكلام ينطبق على الأخلاق والمعاملات، فإن لم يحدث تحسن فيها فإن ذلك يعني أن الإيمان لم يتحسن وإن قام المرء بأداء الكثير من صور العبادات والأعمال الصالحة.
فأين تكمن المشكلة؟ .. أين أثر العبادة؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تدعونا لأن نتعرف أكثر على القلب وعلى الإيمان وحقيقته ...
[القلب والمشاعر]
الإيمان مكانه القلب وليس العقل {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ١٤].
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: ٤١].
والقلب هو مركز الإرادة داخل الإنسان، وهو الملك على الجسد كله وما من فعل أو سلوك إرادي نقوم به إلا ويأخذ الأمر بالتنفيذ من القلب: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله .. ألا وهي القلب» (١).
(١) جزء من حديث متفق عليه: أخرجه البخاري (١/ ٢٨، رقم ٥٢)، ومسلم (٣/ ١٢١٩، رقم ١٥٩٩).