للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأدلة على أن قول اللسان يسمى عملاً

قال المؤلف رحمه الله: [وأما عمل اللسان فقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:١٠٨]، فذكر القول ثم سماه عملاً ثم قال: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:٤١] هل كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم إلا دعاؤه إياهم إلى الله، وردهم عليه قوله بالتكذيب وقد أسماها هاهنا عملاً؟! وقال في موضع ثالث: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:٥١ - ٥٢] إلى {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١]، فهل يكون التصديق إلا بالقول وقد جعل صاحبها هاهنا عاملاً؟! ثم قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:١٣] فأكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان، وإن كانت المكافأة قد تدعى شكراً].

هذا فيه احتجاج على تسمية قول اللسان عملاً، وقد احتج عليهم المؤلف بأربع حجج: الحجة الأولى: قول الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:١٠٨] فقوله: ((إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)) فيه أن عملهم هو تبييتهم قولاً لا يرضاه الله، فسماه الله عملاً بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:١٠٨] يعني: من هذا القول الذي بيتوه، فسماه عملاًً فدل على أن قول اللسان يسمى عملاً.

قال المؤلف: فذكر القول ثم سماه عملاً.

الحجة الثانية: قول الله تعالى في سورة يونس: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:٤١] فسمى قول النبي صلى الله عليه وسلم عملاً وقد كان عمل الرسول عليه الصلاة والسلام هو دعوتهم إلى الله وتبليغهم رسالة الله بلسانه، وإنذارهم وتخويفهم، فسماه عملاً في قوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس:٤١] وهم ردوا على النبي صلى الله عليه وسلم قوله بالتكذيب، وسماه الله هنا عملاً فسمى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم عملاً، وسمى تكذيبهم له بالقول عملاً, فقال: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:٤١].

والحجة الثالثة: قول الله تعالى في سورة الصافات: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٥٠ - ٦١]، فهذه الآيات فيها محاورة بين مؤمن وكافر, فهذا المؤمن كان له قرين في الدنيا، فكان هذا القرين يكذب بالبعث, فلما مات صار هذا القرين الكافر في النار وصار المؤمن في الجنة, فكان المؤمن يتحدث مع إخوانه المؤمنين، فتذكر حال قرينه الكافر الذي ينكر البعث، قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:٥٠] أي: المؤمنون {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:٥١] أي: في الدنيا ينكر البعث، ويقول يخاطب المؤمن: {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:٥٢ - ٥٣] أي: أتصدق بأنك إذا مت وكنت تراباً وعظاماً سوف تبعث وتجازى وتحاسب؟! فقال بعضهم: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:٥٤] يعني: هل نطلع لنرى حاله؟ فاطلعوا وهم في الجنة في أعلى عليين والنار في أسفل سافلين، فاطلع المؤمن على قرينه الكافر فوجده يتقلب في النار في وسط الجحيم، قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٥٥] ومع البعد العظيم بين الجنة والنار، فإن الجنة في أعلى عليين، والفردوس الأعلى أعلاها، وسقفها عرش الرحمن، والنار في أسفل سافلين، مع ذلك يرى المؤمن الكافر في النار، ويراه يتقلب في وسط الجحيم، والله تعالى قد أعطانا مثالاً لذلك في هذه الدنيا، فالإنسان يشاهد الآن من في المشرق ومن في المغرب على الشاشة التلفزيونية، فالمؤمن يخاطب الكافر مع بعد المسافة ويراه، مع أن المؤمن في الجنة في أعلى عليين والكافر في أسفل سافلين، إلا أن المؤمن ينظر إلى الكافر وهو يتقلب في سواء الجحيم، فقد كشف الله له لينظر إليه ويخاطبه مع بعد المسافة، فيقول المؤمن للكافر الذي يتقلب في وسط الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:٥٦] أي: كدت تظلني؛ لأنك تنكر البعث، {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:٥٧] ثم يخاطبه ويقول له: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:٥٨ - ٥٩] أي: أنت تنكر البعث {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:٥٨ - ٥٩]، ثم قال الله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦٠ - ٦١] وهذا هو الشاهد، فالمحاورة بين المؤمن والكافر قول, وقد سماه الله عملاً فقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١]، وهذا هو توجيه المؤلف لهذه الآيات، ولكن قوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١] يعني: لمثل هذا اليوم العظيم الذي يلاقي الإنسان فيه ربه، ويلقى جزاءه فليعمل العاملون بتوحيد الله وإخلاص الدين له، وأداء الفرائض والانتهاء عن المحارم، والاستقامة على دين الله، والوقوف عند حدوده، فالمؤلف رحمه الله استدل بقوله: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:٥١ - ٥٢] فاستدل بقوله: (لمن المصدقين) فقال: إن التصديق سماه الله عملاً بقوله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١]، فهذا المؤمن صدق بلقاء الله وبالبعث وبالجزاء وبالنشور ووحد الله وسمى الله هذا عملاً بقوله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١] فقال المؤلف: فهل يكون التصديق إلا بالقول وقد جعل صاحبه هاهنا عاملاً؟! الحجة الرابعة: قول الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:١٣] فسمى العمل شكراً، وقوله رحمه الله: [أكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان وإن كانت المكافأة قد تدعى شكراً].

فالصواب أن الشكر يكون بالقول ويكون باللسان ويكون بالجوارح, فيكون بالقلب بتعظيم الله وخشيته وإجلاله والاعتراف بنعمه، ويكون باللسان بالتحدث بالنعم وشكر المنعم جل وعلا، ويكون بالجوارح بصرف هذه النعم في طاعة الله، واستعمالها في مراضاته عز وجل.

قال المؤلف رحمه الله: [فكل هذا الذي تأولنا إنما هو على ظاهر القرآن، وما وجدنا أهل العلم يتأولونه، والله أعلم بما أراد، إلا أن هذا هو المستفيض في كلام العرب غير المدفوع، فتسميتهم الكلام عملاً، من ذلك أن يقال: لقد عمل فلان اليوم عملاً كثيراً: إذا نطق بحق وأقام الشهادة ونحو هذا، وكذلك إن أسمع رجل صاحبه مكروهاً قيل: قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل، ونحوه من القول، فسموه عملاً، وهو لم يزده على المنطق، ومنه الحديث المأثور: (من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه)].

يقول: كل هذه النصوص التي تأولناها إنما تأولناها لأن القرآن دل عليها، يعني: ظاهر القرآن يدل عليها، ووجدنا -أيضاً- أهل العلم يتأولونها بهذا التأويل، ويفسرونها بهذا التفسير، فالنصوص قد دلت على تفسير القول بالعمل، وكذلك كلام أهل العلم، وهذا هو المستفيض أيضاً في كلام العرب, ولا يوجد ما يدفع أنهم يسمون الكلام عملاً.

ومن ذلك في لغة العرب أنه يقال: لقد عمل فلان اليوم عملاً كثيراً: إذا نطق بحق وأقام الشهادة ونحو ذلك, فإذا نطق الإنسان بالحق وأقام الشهادة وأداها قيل: قد عمل اليوم عملاً كثيراً، مع أنه نطق بلسانه بالشهادة وبالحق، وقال الحق وتكلم به، فسموا هذا عملاً، فيقولون: لقد عمل فلاناً اليوم عملاً, وكذلك إذا أسمع رجل صاحبه كلاماً سيئاً يكرهه تقول العرب: قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل، وهو إنما تكلم بكلام سيئ، فسموه عملاً، وهو لم يزد على النطق.

هذا معنى كلام المؤلف رحمه الله؛ فتسمية الكلام عملاً دل عليها النصوص،

<<  <  ج: ص:  >  >>