للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد على المرجئة في دعوى كمال الإيمان]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء].

أي: أما قول: أنا مؤمن إيماناً كاملاً كإيمان الملائكة وإيمان النبيين فمعاذ الله أن يقوله أحد من أهل العلم، وكيف يجزم الإنسان بأن إيمانه كإيمان النبيين والملائكة؟! فمن قال: أنا مؤمن وسكت ليس مقصوده الإيمان الكامل كإيمان الملائكة والنبيين، وإنما مقصوده التسمي بالإيمان والدخول فيه، فلهذا قال: [فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد جاءت كراهيته مفسرة عند عدة منهم].

أي: جاءت كراهية إطلاق الإيمان بدون استثناء مفسرة عن عدة من علماء السلف.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشيم -أو حدثت عنه- عن جويبر عن الضحاك: أنه كان يكره أن يقول الرجل: أنا على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام].

وهذا الأثر دليل على أنه يكره أن يقول الإنسان: أنا مؤمن كإيمان جبريل وميكائيل، والمراد به المنع، أي: يمنع ويحرم، وقد تروى الكراهية عند السلف ويراد بها كراهة التحريم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري عن نافع عن عمر الجمحي قال: سمعت ابن أبي مليكة وقال له إنسان: إن رجلاً في مجالسك يقول: إن إيمانه كإيمان جبرائيل، فأنكر ذلك وقال: سبحان الله! كيف يقول ذلك والله قد فضل جبريل عليه السلام في الثناء على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:١٩ - ٢١]].

أي: لما قال: إن إيمانه كإيمان جبرائيل وميكائيل أنكر عليه وقال: سبحان الله! متعجباً من ذلك، ثم قال: كيف يقول: إيماني كإيمان جبرائيل والله تعالى فضل جبريل بالثناء على محمد فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:١٩ - ٢١]؟! أي أنه سبحانه وصفه بهذه الأوصاف، ووصف نبيه بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:٤٠ - ٤١]، ومسألة تفضيل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مسألة خلافية بين أهل العلم، أصلها: هل الأنبياء وصالحوا البشر أفضل من الملائكة أم الملائكة أفضل؟ والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة، لكن ليس المقام مقام بحث هذه المسألة، إنما المقصود الإنكار على من قال: إيماني كإيمان جبريل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا عن ميمون بن مهران أنه رأى جارية تغني فقال: من زعم أن هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب].

ميمون بن مهران رأى جارية تغني -والغناء معلوم أنه فسق، ولاسيما الغناء الذي يلهب النفوس- فقال: من زعم أنه هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب؛ لأن مريم بنت عمران صديقة، وإيمانها كامل، وهذه الجارية فاسقة إيمانها ناقص، فكيف يكون إيمان هذه الجارية الفاسقة التي تغني مثل إيمان مريم بنت عمران؟! يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وكيف يسع أحداً أن يشبه البشر بالملائكة، وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب، وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يعلم فعل بالملائكة من ذلك شيئاً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:٢٩ - ٣٠]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:٢٧٨ - ٢٧٩]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦].

فأوعدهم النار في آية، وآذنهم بالحرب في أخرى، وخوفهم بالمقت في ثالثة، واستبطأهم في رابعة، وهو في هذا كله يسميهم مؤمنين، فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟! إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه].

هذا التعقيب على الأثر تعقيب جيد من المؤلف رحمه الله، ومناقشة حادة للمرجئة، وبيان واضح في بطلان مذهب المرجئة الذين يقولون: إن إيمان الملائكة وإيمان البشر واحد، وإيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد، فهنا المؤلف يناقشهم مناقشة حادة قوية مبنية على فهم النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، فيقول: كيف يسع أحداً أن يقول: إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة؟! فالمرجئة يقولون: إيمان البشر مثل إيمان الملائكة، فيقول الواحد منهم: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكر وعمر! فالمؤلف يتعجب مع استفهام إنكار ممن يستسيغ أن يشبه البشر بالملائكة ويقول: إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة! والملائكة إيمانهم كامل، فهو مطيعون لله، قال الله تعالى عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:٢٧]، فهم لا يعصون الله طرفة عين، أما بنو آدم فيعصون الله في الأرض ويقصرون في الواجبات، ويرتكبون المحرمات، فكيف يشبه بني آدم الذين فيهم العصاة والظلمة والفساق بالملائكة ويقول: إن إيمانهم مثل إيمان الملائكة الذين: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]؟ وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يعلم أنه توعد الملائكة أو أغلظ لهم أو فعل بهم من ذلك شيئاً، فقال في عتاب المؤمنين من البشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:٢٩]، فالذي يأكل المال بالباطل يعاتب، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:٢٩] وهذا عتاب: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:٢٩]، ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء:٣٠]، فتوعده الله بالنار {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:٣٠]، ولم يتوعد الملائكة بشيء من ذلك، وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:١٧٨ - ١٧٩]، هذا وعيد، ولم يتوعد به الملائكة، وقال في الوعيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢ - ٣]، والمقت هو أشد البغض، ولم يقل هذا في الملائكة، وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦]، فهم مع أفعالهم هذه هل هم مؤمنون كاملو الإيمان أم عندهم أصل الإيمان؟! فكيف نشبه هؤلاء العصاة بالملائكة؟! ولهذا قال: [فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟!] أي: كيف نشبه هؤلاء الذين توعدهم الله بإصلاء النار، وتوعدهم بالمقت، وآذنهم بالحرب بجبريل وميكائيل مع قربهما ومكانتهما من الله؟! ثم قال: المؤلف رحمه الله: [إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه] أي: إني لخائف على المرجئة الذين يقول أحدهم: إيمان أفسق الناس مثل إيمان الملائكة من أن يكون هذا من الجرأة على الله ومن الجهل بكتابه.

<<  <  ج: ص:  >  >>