[الرد على تأويل المرجئة]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكل هذه الأقوال لم أجد لها مصدقاً في تفسير الفقهاء، ولا في كلام العرب فالتفسير ما ذكرناه عن معاذ حين قال: (اجلس بنا نؤمن ساعة)، فيتوهم على مثله أن يكون لم يعرف الصلوات الخمس ومبلغ ركوعها وسجودها إلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فضله النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من أصحابه في العلم بالحلال والحرام، ثم قال: (يتقدم العلماء برتوة).
هذا لا يتأوله أحد يعرف معاذاً].
يناقش المؤلف رحمه الله هنا تأويلهم الأول، فيقول: لا يمكن هذا التأويل، فإن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال للرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة) وعلى التأويل الأول سيكون معناه أن معاذاً مقصوده: نزداد من تفصيل النصوص المجملة والفرائض المجملة، فيكون معنى الإيمان: هو الإيمان بوجوب الصلاة ووجوب الزكاة ووجوب الصوم ووجوب الحج والزيادة معناها: معرفة النصوص التي فيها تفصيل، وهو أن الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن صلاة الفجر ركعتان، وأن صلاة الظهر أربع ركعات، إلى آخره وتفصيل الزكاة، وأنها لا بد لها من النصاب، ولا بد لها من الحول وتفصيل الصوم، وتفصيل الحج فيقول المؤلف هنا: هذا لا يمكن أن ينطبق على معاذ بن جبل رحمه الله ورضي الله عنه عندما قال لصاحبه: (اجلس بنا نؤمن ساعة)؛ لأنه على هذا التأويل يكون المعنى: أن معاذ بن جبل رحمه الله لم يعرف الصلوات الخمس، ولم يعرف ركوعها ولا سجودها ولا عددها إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا لا يمكن أن يقال عن معاذ رحمه الله ورضي عنه، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) وقد فضله النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من أصحابه وقال: (يتقدم العلماء برتوة)، يعني: برمية سهم.
فهل يقول إنسان: إن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لم يعرف تفاصيل وجوب الصلاة، ووجوب الصوم، ووجوب الحج، وعدد ركعات الصلاة، وشروط وجوب الزكاة إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟! هذا لا يقوله إنسان فدل هذا على بطلان هذا التأويل.
قال المؤلف رحمه الله: [وأما في اللغة فإنا لم نجد المعنى فيه يحتمل تأويلهم وذلك كرجل أقر له رجل بألف درهم له عليه، ثم بينها فقال: مائة منها في جهة كذا، ومائتان في جهة كذا، حتى استوعب الألف، ما كان هذا يسمى زيادة، وإنما يقال له: تلخيص وتفصيل وكذلك لو لم يلخصها ولكنه ردد ذلك الإقرار مرات ما قيل له: زيادة أيضاً، إنما هو تكرير وإعادة؛ لأنه لم يغير المعنى الأول، ولم يزد فيه شيئاً].
وهذا فيه بيان بطلان التأويل الأول من اللغة، فبين أولاً بطلان التأويل الأول في تفسير الفقهاء وأهل العلم، وأنه لا يمكن أن يكون معاذ بن جبل رضي الله عنه لم يعرف تفاصيل الصلاة والزكاة والصوم والحج إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما في اللغة فإن هذا التأويل باطل، فلو أن رجلاً أقر لشخص بألف درهم وقال: فلان له علي ألف درهم مجملة، ثم فصلها بعد ذلك وبينها، فقال: مائة منها أعطانيها في بلد كذا، ومائة منها في مكة، ومائتان في المدينة، ومائتان في الرياض، وهكذا حتى استوعب الألف، فإن هذا لا يسمى زيادة في اللغة، وكذلك لو كررها وقال: له علي ألف، له علي ألف، فلا يقال: إن هذا زيادة، وإنما يقال له: تلخيص وتفصيل، فإذا أقر شخص لشخص بأن له عليه ألفاً فقال: له علي ألف، ثم فصلها، وقال: أعطاني مائة في الرياض، ومائة في القصيم، ومائة في الدمام، ومائة في المدينة، فلا يقال: إن هذا زيادة، وإنما يقال: هذا تفصيل وتلخيص وكذلك لو كررها وقال: له علي ألف، له علي ألف.
وبهذا يتبين بطلان هذا التأويل عند الفقهاء، وعند أهل اللغة.
أي: يتبين بطلان هذا التأويل شرعاً ولغة.
قال المؤلف رحمه الله: [فأما الذين قالوا: يزداد من الإيمان، ولا يكون الإيمان هو الزيادة فإنه مذهب غير موجود؛ لأن رجلاً لو وصف ماله فقيل: هو ألف، ثم قيل: إنه ازداد مائة بعدها، ما كان له معنى يفهمه الناس إلا أن يكون المائة هي الزائدة على الألف، وكذلك سائر الأشياء، فالإيمان مثلها، لا يزداد الناس منه شيئاً، إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان].
هذا أيضاً فيه إبطال لتأويلهم بقولهم: لا يكون الإيمان هو الزيادة، ولكن الناس يزدادون من الإيمان وهذا هو التأويل الرابع، فقد قالوا: إن الإيمان لا يزداد أبداً، ولكن الناس يزدادون منه، فقال المؤلف في الرد عليهم: هذا مذهب غير موجود، وهو مذهب باطل.
وبيان ذلك أنه لو أن رجلاً وصف ماله فقيل: هو ألف، ثم قيل: إنه ازداد مائة بعدها، ما كان له معنى يفهم إلا أن تكون المائة هي الزائدة على الألف، وكذلك سائر الأشياء.
فكذلك الإيمان مثلها لا يزداد الناس منه شيئاً إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان.
فهذا فيه بطلان للتأويل الرابع في قولهم: إن الإيمان لا يزداد ولكن الناس يزدادون منه فهو يقول: هذا باطل غير معروف وغير مفهوم.
وبيان ذلك: أنه لو وصف مال شخص فقيل: مال هذا الشخص ألف، ثم قيل بعد ذلك: زاد ماله مائة، وزاد كذا وكذا، وزاد سيارة، وزاد ألفاً، فلا يقال: إنه لم يزدد هذا الشيء، ولا يقال: إن المال لا يزداد، ولكن هو يزداد منه.
لا يمكن أن يقال هذا, بل المال زاد وهو ازداد منه.
فكذلك الإيمان لا يزداد الناس شيئاً منه إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان.
فإذا ازداد الناس من الإيمان زاد الإيمان، فقولهم: إن الإيمان لا يزداد، ولكن الناس يزدادون منه باطل وهو تناقض، فكل شيء يزداد منه الإنسان فإنه يزيد.
فإذا ازداد من المال زاد المال، وإذا ازداد من الإيمان زاد الإيمان.
فقولهم مذهب باطل، وتفريق بين متماثلين, فإنه لا فرق بين قولك: الإيمان يزداد، وقولك: الناس يزدادون من الإيمان؛ لأن الإنسان إذا ازداد من الإيمان زاد الإيمان، مثل المال.
قال المؤلف رحمه الله: [وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى لهم؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم؟! فكيف يزداد من شيء قد استقصي وأحيط به؟! أرأيتم رجلاً نظر إلى النهار بالضحى حتى أحاط عليه كله بضوئه، هل كان يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار، ولو اجتمع عليه الإنس والجن؟! هذا يستحيل ويخرج مما يعرفه الناس].
وهذا رد على تأويلهم الثالث في قولهم: الزيادة في الإيمان المراد بها: الازدياد من اليقين والمؤلف رحمه الله لم يرتب الأقوال في الرد عليها، وإنما رد عليها بغير ترتيب، وهو هنا الآن يبطل قولهم: إن المراد من الزيادة في الإيمان: الازدياد من اليقين.
فيقول: إن هذا باطل؛ لأن اليقين من الإيمان وإذا قيل إن الإنسان يزداد من اليقين فمعناه: أنه يزاد من الإيمان؛ لأن اليقين من الإيمان، فالقول بأن الزيادة في الإيمان ازدياد من اليقين متلازمان، فإذا زاد اليقين زاد الإيمان، وإذا نقص الإيمان نقص اليقين.
فقولهم: إنما الزيادة من اليقين لا من الإيمان باطل؛ لأن اليقين من الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى لهم؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار عندهم] يعني: المرجئة, إذ عندهم أن الإيمان برمته كامل بالإقرار, والإقرار معناه: التصديق بالقلب.
فإذا صدق وآمن وأقر بقلبه فقد كمل الإيمان في قلبه، هذا عند المرجئة.
يقول: [فإذا كان معنى الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم، أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم؟!] أي: إذا كان الإيمان وهو التصديق والإقرار كامناً في القلب وقد استكملوه بقلوبهم فقد أحاطوه باليقين من قولهم، فكيف يقال: إن الزيادة إنما هي الزيادة من اليقين لا من الإيمان؟! فما دام أن الإيمان هو الإقرار والتصديق بالقلب، وأنه كامن في القلب، عند المرجئة، فمعناه: أنه كمل اليقين وإذا كمل الإيمان كمل اليقين، وإذا نقص الإيمان نقص اليقين فإذا كان الإيمان كله عند المرجئة إنما هو الإقرار ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم فقد أحاطوه باليقين، فكيف يزداد من شيء قد استقصي وأحيط به؟! وكيف يزداد من شيء قد كمل في قلب صاحبه؟! فعند المرجئة الإيمان كامل في القلب بمجرد الإقرار والتصديق.
فكيف يئولون الآيات ويقولون: معناها الازدياد من اليقين؟ ثم ضرب لهذا مثلاً فقال: [أرأيتم رجلاً نظر إلى النهار بالضحى حتى أحاط عليه كله بضوئه، هل كان يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار؟!] أي: إذا نظر إنسان إلى النهار بالضحى فإنه يقال: إن هذا الشخص قد أحاط بالنهار وبضوئه، فهل يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار، أم أن اليقين كامل في نفسه؟ فلا يقال: إنه ازداد يقيناً بأنه نهار؛ لأن اليقين حاصل له، فلا يحتاج إلى زيادة بعد ذلك.
فكذلك قولهم: إن الإيمان كامل في القلب بمجرد الإقرار والتصديق، وتأويلهم الزيادة في الإيمان بأنها زيادة اليقين، فيقال لهم: إن الإيمان كامل في القلب، واليقين كامل، فكيف يزداد من شيء قد كمل؟! ولهذا قال المؤلف: [ولو اجتمع عليه الإنس والجن، هذا يستحيل ويخرج مما يعرفه الناس]، أي: لو اجتمع عليه الإنس والجن وأرادوا أن يزيد يقيناً من النهار وهو في وسط النهار في الصحراء لما استطاعوا أن يزيدوه يقيناً؛ لأن اليقين حاصل له وكامل له.