[تحذير السلف من مجالسة أهل الإرجاء]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولاً بلا عمل، وما نهوا عنه من مجالسهم.
قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني قال: قال حذيفة: (إني لأعرف أهل دينين، أهل ذينك الدينين في النار: قوم يقولون: الإيمان قول وإن زنى وإن سرق، وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟ وإنما هما صلاتان، قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء وصلاة الفجر) قال: وقال ضمرة بن ربيعة يحدثه عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة قارن حديث حذيفة هذا قد قرن الإرجاء بحجة الصلاة].
عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب لبيان الآثار الواردة عن السلف والصحابة والتابعين فمن بعدهم في عيب المرجئة وذمهم والنهي عن مجالستهم، وهم الذين يقولون: إن الإيمان قول بلا عمل، أي: قول القلب وتصديقه وإقراره بلا عمل، وأن أعمال الجوارح وأعمال القلوب لا تدخل في مسمى الإيمان، ثم ذكر أثر حذيفة رضي الله عنه قال: [إني لأعرف أهل دينين أهل ذينك الدينين في النار: قوم يقولون: الإيمان قول وإن زنى وإن سرق]، يعني: المرجئة يقولون: إيمان العاصي كامل مثل إيمان المطيع، سواء بسواء.
قوله: [وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟ وإنما هما صلاتان.
قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء وصلاة الفجر، قال: وقال ضمرة بن ربيعة يحدثه عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة، قارن حديث حذيفة هذا قد قرن الإرجاء بحجة الصلاة] هذا الأثر فيه بعض السقط، لكن كأنه يقول: إن حذيفة رضي الله عنه عقد مقارنة بين المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بالقلب وتصديق بالقلب ولا ينقص الإيمان ولو زنى ولو سرق، وبين من يقول: الصلاة الواجبة صلاتان في اليوم والليلة لا خمس صلوات؛ وإنما هما صلاة المغرب وصلاة الفجر، أو صلاة العشاء وصلاة الفجر فقط، فهذا دليل على ذم المرجئة وعيبهم، وأن مذهبهم مذهب مذموم.
فمن أنكر وجوب الصلوات الخمس فإنه يكفر والعياذ بالله، ومن قال: لا يجب في اليوم والليلة إلا صلاتان فقد كفر، ومن قال: إن الإيمان قول والأعمال مطلوبة لا يكفر، لكنه قرن بهؤلاء في الذم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبذلك وصفهم ابن عمر أيضاً.
قال أبو عبيد: حدثنا علي بن ثابت الجزري عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال: (صنفان ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية)].
هذا -أيضاً- فيه ذم المرجئة، والحديث موقوف على ابن عمر لكنه ضعيف؛ لأن فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف من جهة حفظه، لكن المرجئة لا شك أن مذهبهم مذموم من جهة أنه خالف النصوص، وكذلك القدرية الذين يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة لهم، ولم يقدرها الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمع الضحاك وميسرة وأبو البختري فأجمعوا على أن الشهادة بدعة، والإرجاء بدعة، والبراءة بدعة].
هذا فيه ذم الشهادة والإرجاء والبراءة، وهذا الأثر يقول المحشي فيه: إسناده إلى سلمة بن كهيل صحيح، وهو من صفوة التابعين.
فـ أبو البختري والضحاك وميسرة أجمعوا على بدعية هذه الأمور الثلاث: الشهادة والإرجاء والبراء، أي: الشهادة على معين من المسلمين أنه من أهل النار أو أنه كافر بدون العلم بما ختم الله له، ويحتمل أن المراد الشهادة لمؤمن معين بالجنة، إلا لمن شهدت له النصوص، فكون الإنسان يشهد على شخص معين بأنه من أهل النار بدون دليل وبدون علم بما ختم الله به بدعة، أما من علم أن الله ختم له بالنار -كـ أبي جهل وأبي لهب - فإنه يشهد عليه بالنار، ويحتمل أن المراد الشهادة لمؤمن معين بالجنة، وإنما يشهد للمؤمنين بالعموم، فيقال: كل المؤمنين في الجنة، أما فلان بن فلان فلا يشهد له بالجنة، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، إلا من شهدت له النصوص، كالعشرة المبشرين بالجنة، والحسن والحسين، وكذلك بلال وابن عمر، وعكاشة بن محصن.
فالقول بأن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان بدعة وإرجاء، لكن المرجئة طائفتان: الأولى: المرجئة المحضة، يقولون: الأعمال ليست من الإيمان وليست مطلوبة.
والثانية: مرجئة الفقهاء، يقولون: الأعمال مطلوبة ولكنها ليست من الإيمان.
قوله: [والبراءة بدعة] لعل المراد بالبراءة البراءة من أبي بكر وعمر كما تقول الروافض، يقولون: لا ولاء إلا بالبراء.
أي: لا يتولى أهل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر، فعندهم لا يتولى المرء علياً إلا إذا تبرأ من أبي بكر وعمر، وهذا باطل، بل أهل السنة يتولون الجميع، يتولون أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأهل البيت جميعاً، وينزلونهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها بالإنصاف والعدل لا بالهوى والتعصب، فقول الروافض: لا ولاء إلا بالبراء، ولا يتولى أحد أهل البيت ولا يتولى أحد علياً إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر بدعة وباطل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري قال: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أعز على أهلها من هذا الإرجاء].
هذا فيه ذم الإرجاء؛ لأنه سمي بدعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: دخل فلان -قد سماه إسماعيل، ولكن تركت اسمه أنا- على جندب بن عبد الله البجلي فسأله عن آية من القرآن فقال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت، أو قال: أن تجالسني.
أو نحو هذا القول].
هذا فيه ذم المرجئة، وأن جندب بن عبد الله الصحابي الجليل لما دخل عليه هذا المرجئ وسأله عن آية قال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت من مجلسي، فنهاه عن مجالسته، وهذا فيه ذم المرجئة وأن العلماء من الصحابة والتابعين يعيبونهم ويذمونهم وينهون عن مجالستهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال: قال لي سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكراً له شيئاً: لا تجالس فلاناً، وسماه أيضاً فقال: إنه كان يرى هذا الرأي].
يعني: يرى هذا الرأي الذي هو الإرجاء، فنهى عن مجالسته، وهذا فيه دليل على أن العلماء ينهون عن مجالسة المرجئة ويذمونهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحديث في مجانبة الأهواء كثير، ولكنا إنما قصدنا في كتابنا لهؤلاء خاصة].
يعني: الأحاديث والآثار في النهي عن مجالسة أهل البدع وذمهم كثيرة، لكن المقصود في كتابنا هذا النهي عن مجالسة المرجئة خاصة، أما النهي عن بقية أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل البدع فالنصوص والآثار عن الصحابة والتابعين كثيرة في ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلى مثل هذا القول كان سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس ومن بعدهم من أرباب العلم وأهل السنة، الذين كانوا مصابيح الأرض وأئمة العلم في دهرهم من أهل العراق والحجاز والشام وغيرها، زارين على أهل البدع كلها، ويرون الإيمان قولاً وعملاً].
يعني أن الأئمة والعلماء من الصحابة والتابعين كلهم كانوا يذمون أهل البدع وينهون عن مجالستهم ويعيبونهم، منهم سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس من أهل العلم وأرباب العلم من أهل السنة الذين هم مصابيح الأرض وأئمة العلم من أهل العراق والحجاز، فهؤلاء كلهم ينهون عن مجالسة أهل البدع ويذمونهم، ويرون أن الإيمان قول وعمل خلافاً للمرجئة الذين يرون أن الإيمان قول بلا عمل.