للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أدلة تفاضل الإيمان في القلوب]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:١٠]، ألست ترى أن هاهنا منزلاً دون منزل؟ {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:١٠] كذلك].

أي أن هذا مما يدل على أن الإيمان يتفاضل في القلب، خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الإيمان في القلب شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ومما يدل عليه آية الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:١٠]، فهي تدل على أن الإيمان يتفاضل في قلوب الناس، فإذا جاءت المرأة مهاجرة إلى المدينة تمتحن حتى يعلم ما في قلبها من الإيمان هل هي مؤمنة صادقة أو مؤمنة غير صادقة، ولهذا قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:١٠]، والمعنى: وإن لم تعلموهن مؤمنات فارجعوهن إلى الكفار، ولذلك قال: ألست ترى أن هاهنا منزلاً دون منزل؟! فالمنزل الأول: ((فَامْتَحِنُوهُنَّ) والمنزل الثاني: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)).

يعني: هناك منزلان: الأول: أن تعلم أنها مؤمنة، والمنزل الثاني: أن تعلم أنها ليست مؤمنة، وهذا وجه الدلالة من الآية على أن الإيمان يتفاضل في القلب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومثله قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:١٣٦]، فلولا أن هناك موضع مزيد ما كان لأمره بالإيمان معنى].

وهذا دليل آخر مع بيان وجه الدلالة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:١٣٦] ووجه الدلالة هو أنهم مؤمنون وقال لهم: آمنوا، فبعد أن ناداهم باسم الإيمان قال لهم آمنوا.

أي: ازدادوا إيماناً، فدل على أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا قال المؤلف في بيان وجه الدلالة: [فلولا أن هناك موضع مزيد ما كان لأمره بالإيمان معنى] فلو كان الإيمان لا يزيد فكيف يأمرهم بالإيمان؟! والمرجئة يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولو كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص لم يأمرهم الله بالإيمان، ولما كان للأمر معنى، وهذا واضح في الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإنما هو شيء واحد في القلب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال أيضاً: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:١ - ٣]].

وهذه الآية واضحة في أن الإيمان يزيد وينقص، قال الله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي: في إيمانهم ((وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)).

إذاً: هناك مؤمن صادق وهناك مؤمن غير صادق، فالمؤمن ضعيف الإيمان لا يقال له: صادق الإيمان، بل يقال: غير صادق الإيمان، والمؤمن قوي الإيمان يقال له: صادق الإيمان، فدل على أن الإيمان يتفاوت، فالعاصي إيمانه غير صادق والمطيع إيمانه صادق، ولهذا يقال في العاصي: مؤمن ناقص الإيمان، ويقال: ليس بمؤمن حقاً، وليس بصادق الإيمان، ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:١٧٧] في الآية الأخرى، وهنا قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي: صدقوا في إيمانهم ((وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:١٠]].

وهذا فيه بيان ضعف الإيمان، حيث يقول تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ))، فهذا ضعيف الإيمان، ((فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) وفي الآية الأخرى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:١١] فقوله: (على حرف) أي: على طرف.

إذاً: الناس يتفاوتون، فمنهم ضعيف الإيمان الذي إذا أوذي افتتن عن دينه ونكص على عقبيه، ومنهم الصادق في إيمانه الذي يتحمل الأذى، فدل على أن الإيمان يتفاوت وأن الناس يتفاوتون في الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:١٤١]].

إذاً: هناك تمحيص، حتى يتبين المؤمن الصادق من غير الصادق، فدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان، وهذا يدل على أن المؤلف - أبا عبيد القاسم بن سلام رحمه الله- دقيق الفهم والاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو إمام رحمه الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أفلست تراه تبارك وتعالى قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل].

ولذا قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٣]، فالصادق في إيمانه هو الذي يصدق عمله قوله؛ لأن بعض الناس يقول آمنا بالله، فإذا جاءت الفتنة نكص على عقبيه، وهو يقول: آمنا بالله، فإذا طلب منه الجهاد امتنع، ومن الناس من يقول: آمنا بالله، ثم يجاهد، فهذا صدق إيمانه بالعمل، وذاك كذب عمله ما يدعيه من الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم يرض منهم بالإقرار دون العمل].

أي: لم يرض بالإقرار بالقلب فقط، بل لابد من العمل، ولهذا قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت:٣]، أي: الذين صدقت أعمالهم إيمانهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حتى جعل أحدهما من الآخر، فأي شيء يتبع بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة؟!].

أي: جعل كل واحد من القول العمل إيماناً، فأي شيء يتبع الإنسان بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي دلت على دخول الأعمال في مسمى الإيمان؟! وكذلك أجمع السلف الصالح الذين هم موضع القدوة والإمامة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على هذا، فكيف يترك الإنسان ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم وهم موضع القدوة؟!

<<  <  ج: ص:  >  >>