قال المؤلف رحمه الله: [والذي يرد المذهب الأول ما نعرفه من كلام العرب ولغاتها، وذلك أنهم لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه، وهو كالمخبر على نفسه بالعدم وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد من الله عليه بالسلامة، وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب، فهذا الذي تسميه العرب كفراناً إن كان ذلك فيما بينهم وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه، ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء:(إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير - يعني الزوج - وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: ما رأيت منك خيراً قط) فهذا ما في كفر النعمة].
هذا رد المؤلف وإبطاله لقول أهل الأول، وهم الذين تأولوا الأحاديث التي فيها الكفر بأنه كفر النعمة، كحديث:(اثنتان في الناس هما بهم كفر)، وحديث (ولا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
فيقول المؤلف رحمه الله: هذا باطل، والذي يدل على بطلان تفسير الكفر بكفر النعمة أن المعروف في لغة العرب أن كفران النعمة إنما يكون بالجحد لنعمة الله وآلائه، ولا يقال: إن من طعن في النسب جاحد لأنعام الله وآلائه.
والجاحد لنعم الله وآلائه هو الذي يخبر عن نفسه بالعدم وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد من الله عليه بالسلامة، فقد تجد الشخص الغني الذي آتاه الله مالاً وثروة تجده يجحد نعمة الله إذا خرج إلى الناس في ثياب مرقعة مخرقة ليظهر أنه فقير، وقد يتسول، وفي الحديث:(إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر نعمته عليه)، وكذلك من منَّ الله عليه بالسلامة والعافية تجده يجعل نفسه كأنه في هيئة مريض، فيربط -مثلاً- يده ويقول: إن فيها كسراً، ويأتي بعصا يتوكأ عليه، وبعضهم يأتي ولا يصلي والعياذ بالله، وبعضهم يجلس أمام المصلين، فيكشف عن بطنه وقد دهنها بشيء ينفخ البطن، ويظهر للناس أنه يئن أنيناً، وهذا قد وقع من بعض الناس، حتى يستميل عطف الناس فيقولوا: هذا مسكين مريض، وإذا خرج من المسجد قام سليماً، فهذا -والعياذ بالله- جاحد لنعمة السلامة والعافية.
قوله:[وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب] أي: كون الإنسان يكتم المحاسن وينشر المصائب، هذا هو الجحود الذي تسميه العرب كفراناً [إذا كان ذلك فيما بينهم وبين الله، وكذلك إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه]، فإذا جحد الإنسان المعروف الذي عليه لجاره أو لأخيه يقال: إنه هذا كفر النعمة.
وقوله:[وينبئك عن ذلك] أي: يدلك على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: (تصدقن يا معشر النساء! فإنكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة فقالت: يا رسول الله! ما لنا أكثر أهل النار؟! قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير) والعشير: الزوج، والمعنى: جحود النعمة، وذلك أن المرأة تجد الزوج يحسن إليها طول الدهر، فإذا وجدت شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط.
فهذه قد جحدت النعمة.
يقول المؤلف: فتفسير هذه النصوص بكفر النعمة باطل لغة وشرعاً، أما اللغة فإنه لا يفسر كفران النعمة إلا بجحود النعمة، وكذلك الناس فيما بينهم، ويدل على ذلك قوله:(وتكفرن العشير)، فدل على أن تفسير هذه النصوص بكفران النعمة باطل من جهة اللغة، وباطل من جهة الشرع.