للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أمثلة على تفاوت الجرائم والمعاصي وتفاوت من يفعلها]

قال المؤلف رحمه الله: [ومن هنا وجدنا الجرائم كلها، ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعداً، وإن كان دون ذلك لم يلزمه قطع؟ فقد يجوز في الكلام أن يقال: هذا سارق كهذا، فيجمعهما في الاسم وفي ركوبهما المعصية، ويفترقان بالعقوبة على قدر الزيادة في الذنب].

المعنى أننا نجد الجرائم والمعاصي كلها بينها تفاوت، فقد يكون مسماها واحداً والذين يفعلونها متفاوتون فيها، ولهذا قال: (ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعداً وإن كان دون ذلك لم يلزمه قطع)، ربع الدينار ثلاثة دراهم، فإذا سرق ما يبلغ ربع دينار قطعت يده وإذا سرق ألفاً تقطع يده، وإذا سرق ألفين تقطع يده، والذي يسرق ديناراً يسمى سارقاً، والذي يسرق ثلاثة دنانير كذلك، والذي يسرق ألف أو مليون ديناراً كلهم يطلق عليهم لفظ السارق، لكنهم متفاوتون في الجريمة والمعصية، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعداً، وإن كان دون ذلك لم يلزمه القطع، فقد يجوز في الكلام أن يقال: هذا سارق) فالذي سرق ديناراً سارق، والذي يسرق ألف سارق فهما في الاسم سواء، كل منهما يسمى سارقاً وكل منهما عاص، ويفترقان في العقوبة على قدر الزيادة في الذنب، فالذي يسرق الملايين ذنبه أعظم من الذي يسرق ديناراً واحداً، وإن كان كل منهما يسمى سارقاً، فدل ذلك على أن الذنوب والمعاصي والكبائر تتفاوت، وهي كلها تضعف الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك البكر والثيب يزنيان، فيقال: هما لله عاصيان معاً، وأحدهما أعظم ذنباً وأجل عقوبة من الآخر].

فالبكر والثيب يزنيان وكل منهما زان وعاص عند الله، وكل منهما مرتكب لكبيرة، لكن الثيب أعظم ذنباً وأعظم عقوبة، فالثيب يرجم بالحجارة حتى يموت، والبكر يجلد مائة جلدة ويغرب عاماً، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢]، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً, البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الرجم) أو كما جاء في الحديث.

إذاً: الثيب يرجم والبكر يجلد، فهما وفعا في إثم واحد وهو الزنا، ولكن العقوبة متفاوتة، وكل منهما ضعيف الإيمان، وكذلك المؤمنون يتفاوتون في إيمانهم, فالذي يرتكب الكبيرة العظيمة يضعف إيمانه، والذي يرتكب كبيرة أقل منها يضعف بقدرها، فيكون الذي يرتكب الكبيرة العظيمة إيمانه ضعيفاً، فالزاني الثيب أضعف إيماناً من الزاني البكر، بل يكون إيمانه أشد ضعفاً.

قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك قوله: (لعن المؤمن كقتله) إنما اشتركا في المعصية حين ركباها، ثم يلزم كل واحد منهما من العقوبة في الدنيا بقدر ذنبه].

فالذي يلعن مؤمناً والذي يقتل مؤمناً كل منهما يسمى عاص، فاللاعن عاص والقاتل عاص لكن هل العقوبة واحدة والذنب واحد؟ لا، القاتل يقتل عمداً عدواناً، واللاعن لا يقتل ولكن يقتص منه، وكذلك في الإيمان يتفاوتان، فقاتل المؤمن ذنبه عظيم وإيمانه ناقص، وهو أضعف إيماناً من اللاعن.

قال المؤلف رحمه الله: [ومثل ذلك قوله: (حرمة ماله كحرمة دمه) وعلى هذا وما أشبه أيضاً].

لا شك أن من أخذ مال المسلم بغير حق مرتكب للكبيرة، ومن قتله بغير حق مرتكب للكبيرة، لكن من سفك الدم بغير حق أعظم ذنباً وإيمانه أشد ضعفاً ممن أخذ المال، وكل منهما يسمى عاصياً مرتكباً لكبيرة، وكل منهما ناقص الإيمان.

والمؤلف رحمه الله يبين أن الناس يتفاوتون في إيمانهم, وليسوا على حد سواء، خلاف المرجئة الذين يقولون: الإيمان واحد، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، وإيمان أفجر الناس وأتقى الناس واحد.

فالذي يقتل ويزهق النفوس ويأخذ الأموال ويشرب الخمور هذا إيمانه مثل إيمان أتقى الناس وأعبد الناس، على حد زعمهم، وهذا من أبطل الباطل.

فالمؤلف رحمه الله يبن أن الناس يتفاوتون في الإيمان على حسب تفاوتهم في التقوى والإيمان والطاعة والعمل الصالح، وكذلك يتفاوتون في ضعف الإيمان على حسب الجرائم والكبائر التي ارتكبوها، فالقاتل إيمانه أشد ضعفاً ممن لعن المؤمن أو سبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>