تفسير قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما)
جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الشيطان جاء إلى آدم وحواء لما حملت حواء وقال لهما: سمياه عبد الحارث، لئن لم تسمياه عبد الحارث لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقك، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت المرة الثانية فأتاهما فقال لهما مثل ذلك، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت في المرة الثالثة فقال لهما مثل ذلك، فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، فذلك قول الله تعالى: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:١٩٠].
قوله: (شركاء) يعني: شركاء في التسمية والطاعة، وليس شركاً في العبادة، وهذه القصة من أخبار بني إسرائيل لا تثبت، لكن روي عن الحسن وغيره قال: أشفقا أن يكون بهيمة، وقال بعضهم: شركاء في التسمية والطاعة وليس في العبادة، وكون هذه القصة لا تثبت فالآية كافية لمن تدبرها وتأملها فإنها ظاهرة في آدم وحواء.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف:١٨٩] هي آدم {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:١٨٩] هي حواء، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:١٨٩] جامعها {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} [الأعراف:١٨٩] ثقل الحمل في بطنها {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} [الأعراف:١٨٩] يعني: إنساناً مستوياً سليم الأعضاء {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:١٨٩ - ١٩٠].
أما قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:١٩٠] فهو انتقال من الشخص إلى جنس الذرية، وقال بعض العلماء: إن الآية في الجنس لا في آدم، لكن الصواب: أنها في آدم وحواء، وهذا هو الظاهر من الآية، والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ذكرها في كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:١٩٠] وذكر أثر ابن عباس بصرف النظر عن كونه ثابتاً أو غير ثابت، وذكر الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب تيسير العزيز الحميد: أن الآية صريحة في أن القصة في آدم وحواء، وأن على هذا تفاسير السلف، وأن إنكار كون الآية في آدم وحواء مكابرة وعدول عن تفاسير السلف إلى تفاسير أهل البدع.
ومن العلماء من قال: إنها ليست في آدم وحواء، وإنما هي في جنس بني آدم، وذهب إلى هذا فضيلة الشيخ: محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله في كتابه القول المفيد، وقال: إنه لا يمكن أن يقع الشرك من آدم، والأنبياء معصومون من الشرك، ولو كان وقع الشرك لذكر الله توبتهما منه كما ذكر توبتهما من الأكل من الشجرة.
والصواب والذي يظهر لي: أنها في آدم وحواء، وأن هذا شرك في التسمية، وقع منهم الذنب في التسمية كما وقع الذنب في الأكل من الشجرة، ولهذا قال العلماء: إن من ينكر وقوعهما في طاعة الشيطان في التسمية كيف يغفل عن معصيتهما في المرة الأولى، فهما وقعا في المعصية وأكلا من الشجرة، وسول لهما مرة أخرى وأطاعاه في التسمية، فهو شرك في التسمية لا شرك في العبادة.
أما قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:١٩٠] فهذا في الذرية، فهو انتقال من الشخص إلى الجنس, والشرك في هذه الآية ليس شركاً في العبادة والتوحيد، وإنما هو شرك في الطاعة والتسمية، وهو لا يمنع وقوعهما منهما كما وقعت المعصية منهما في أول الأمر، والمؤلف رحمه الله ذهب إلى أنها في آدم وحواء وقال: (فمن الشاهد على الشرك في التنزيل قول الله تعالى في آدم وحواء عند كلام إبليس ثم قال: وإنما هو في التأويل: أن الشيطان قال لهما: سميا ولدكما عبد الحارث، فهل لأحد يعرف الله ودينه أن يتوهم عليهما الإشراك بالله مع النبوة؟!) فالمقصود: أن الله أخبر أنه وقع منهما الشرك، وآدم نبي عليه الصلاة والسلام، فهل يتوهم أحد وقوع الشرك الأكبر منه، والأنبياء معصومون من الشرك الأكبر وفيما يبلغون عن الله؟ قوله: (فقد سمى فعلهما شركاً وليس هو الشرك بالله)، يعني: هو شرك أصغر، شرك في الطاعة والتسمية ينافي كمال التوحيد.
فالشرك الذي وقع من الأبوين شرك في طاعة الشيطان في التسمية، فإنما سمياه عبد الحارث وليس شركاً في العبادة، ولهذا استدل المؤلف رحمه الله بهذه الآية على أن بعض المعاصي تسمى شركاً كقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فكما سمى الحلف بغير الله شركاً، فكذلك سمى ما وقع من الأبوين شركاً في التسمية وهو شرك أصغر، ويكون قد تابا منه، فهذا مثال في الشرك الذي لا يخرج من الملة.