للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأدلة الواضحة على صحة تأويل المؤلف لأحاديث نفي الإيمان]

قال المؤلف رحمه الله: [وقد وجدنا مع هذا شواهد لقولنا من التنزيل والسنة، فأما التنزيل فقول الله جل ثناؤه في أهل الكتاب حين قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:١٨٧]].

فالمؤلف يقول: إننا وجدنا أدلة تدل على هذا التأويل الذي تأولنا به النصوص من القرآن العزيز ومن السنة المطهرة تدل على أنه ينفى عن الشيء حقيقته وكماله وإن كان الاسم باق، فمن ذلك قول الله جل ثناؤه في أهل الكتاب اليهود والنصارى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:١٨٧]، فالله تعالى أخذ على أهل الكتاب الميثاق أن يبينوا ولا يكتموا، لكن كتموه ونبذوه، ومع ذلك فإن اسم الكتاب باق معهم، والأحكام باقية في أهل الكتاب تؤكل ذبائحهم وتنكح نساءهم ولو أنهم لم يقوموا بالعمل فالاسم باق، لكن نفى عنهم الكمال.

قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: حدثنا الأشجعي عن مالك بن مغول عن الشعبي في هذه الآية قال: أما إنه كان بين أيديهم ولكن نبذوا العمل به، ثم أحل الله لنا ذبائحهم، ونكاح نسائهم، فحكم لهم بحكم الكتاب إذا كانوا به مقرين، وله منتحلين، فهم بالأحكام والأسماء في الكتاب داخلون، وهم لها بالحقائق مفارقون، فهذا ما في القرآن].

يقول المؤلف: إن أهل الكتاب سماهم الله أهل الكتاب وهم لم يعملوا بالكتاب بل نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً، ومع ذلك ما زال عنهم اسم أهل الكتاب وقد نبذوا العمل به وهو بين أيديهم، ولم تزل الأحكام عليهم، فأحل الله لنا ذبائحهم إذا ذبحت باسم الله، أما إذا ذبحت باسم المسيح فلا تأكل، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:٥]، وكذلك جواز الزواج بالمرأة الكتابية اليهودية والنصرانية إذا كانت محصنة ولو كانوا لا يعملون بكتابهم.

فكما أن المؤمن العاصي يسمى مؤمناً وهو عاصٍ، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى العصاة يسمون أهل الكتاب، فهذه الأسماء باقية والأحكام باقية، ولهذا قال المؤلف: (أما إنه كان بين أيديهم ونبذوا العمل به) ثم بقيت الأحكام (ثم أحل الله لنا ذبائحهم ونكاح نسائهم، فحكم لهم بحكم الكتاب إذا كانوا به مقرين) أي: مقرين بكتابه ولهم التحريف فينتسبون إلى اليهودية والنصرانية.

فهم داخلون بأحكامهم وأسمائهم في مسمى أهل الكتاب، وهم لها بالحقائق مفارقون لأنهم ما عملوا بكتابه، وكذلك المؤمن العاصي حقيقة الإيمان منفية عنه، واسم الإيمان والأحكام كلها ثابتة له.

قال المؤلف رحمه الله: [وأما السنة: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحدث به رفاعة في الأعرابي الذي صلى صلاة فخففها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، حتى فعلها مراراً كل ذلك يقول: (فصل)، وهو قد رآه يصليها، أفلست ترى أنه مصل بالاسم، وغير مصل بالحقيقة].

الشيخ: حديث رفاعة يسمى عند العلماء بحديث الأعرابي المسيء، وهو حديث رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في المسجد فدخل رجل فصلى ركعتين، ثم جاء وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (عليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل)، فرجع الرجل فصلى مثل صلاته الأولى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل) ثم رجع الرجل فصلى مثل صلاته الأولى، لا يتم الركوع ولا السجود، ينقرها نقر الغراب، حتى فعل هذا ثلاث مرات، وفي كل مرة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل) فقال الرجل في المرة الثالثة: والذي بعثك بالحق نبياً لا أحسن غيرها، فعلمني، فعلمه وقال: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) فأرشده إلى الطمأنينة.

والشاهد من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، فوجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإنك لم تصل)، فنفى عنه الصلاة ولكنه مصل، في الحديث: جاء رجل أعرابي فصلى فقال له النبي: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنك لم تصل)؟ فهو أثبت الصلاة ونفاها عنه، وهذا ليس بتناقض؛ لأن الجهة منفكة، فهذا الرجل أثبت له الصلاة الصورية، صورة قام وصلى ركعة أو ركعتين بركوع وسجود، والذي نفي عنه الصلاة الحقيقية الشرعية؛ لأن ما فيها طمأنينة، فهذا الرجل بقي له الاسم، ونفيت عنه الحقيقة، فهو مثل المؤمن العاصي له الاسم والأصل، وينفى عنه الحقيقة والكمال.

قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك في المرأة العاصية لزوجها، والعبد الآبق، والمصلي بالقوم الكارهين له إنها غير مقبولة].

فقد جاء في الحديث: (ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: منهم إمام أمَّ قوماً وهم له كارهون)، وكذلك العبد الآبق لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وكذلك المرأة العاصية لزوجها لا تقبل صلاتها.

فهل معنى ذلك أن صلاتهم باطلة، وأنهم كفار؟ لا، فالنفي إنما هو للكمال والحقيقة لعصيانه، ولكن الصلاة صحيحة، والمنفي إنما هو الكمال لأجل عصيانه، فكذلك المؤمن العاصي ينفى عنه الكمال ويثبت له الأصل والاسم.

قال المؤلف رحمه الله: [ومنه حديث عبد الله بن عمر في شارب الخمر: أنه لا تقبل له صلاة أربعين ليلة].

فشارب الخمر لا تقبل له صلاة كاملة وإن كانت صلاته صحيحة، لكن نفي عنه الكمال، وليس ثوابها مثل ثواب المؤمن المطيع، فكذلك المؤمن العاصي ينفى عنه كمال الإيمان، ويثبت له أصله واسمه.

قال المؤلف رحمه الله: [وقول علي رضي الله عنه: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد].

هذا موقوف على علي ليس مرفوعاً، ومعناه: لا صلاة كاملة، ولو صلى في غير المسجد صحت صلاته إلا أنه عاص، وثوابها ليس كثواب من صلى في المسجد وهو في ذلك يكون آثماً؛ لأن النصوص دلت على أنه لا بد للرجل أن يصلي في الجماعة إلا من عذر، فهذا الرجل صلاته صحيحة وثابتة، لكن المنفي عنه الكمال وعليه الإثم إذا كان يستطيع الجماعة.

قال المؤلف رحمه الله: [وحديث عمر رضي الله عنه في المقدم ثقله ليلة النفر أنه لا حج له].

هذا الحديث الذي ذكره المؤلف يحتاج إلى تخريج، وعلى فرض ثبوته يكون معناه: لا حج له كاملاً؛ لأن من يتقدم ليلة النفر - يعني: ليلة العيد - ولا يبيت بمزدلفة فقد ترك واجباً من واجبات الحج، فهذا حجه صحيح لكن عليه دم شاة يذبحها.

قال المؤلف رحمه الله: [وقال حذيفة: من تأمل خلق امرأة من وراء الثياب وهو صائم أبطل صومه].

هذا الأثر جاء مرفوعاً لكنه موضوع، والمؤلف هنا ما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل نسبه إلى حذيفة، لكن لو صح فمعناه: أبطلت كمال الصوم، وإلا فصومه صحيح ومجزي.

<<  <  ج: ص:  >  >>