للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[توجيه كراهة الاستثناء في الإيمان]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء فيه، وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين].

هذا تعقيب من المؤلف رحمه الله على هذه الآثار ليبين وجه ذلك، فقال: [ولهذا كان يأخذ سفيان] أي: سفيان الثوري [ومن وافقه الاستثناء فيه] يعني: في الإيمان، فإذا قيل له: أمؤمن أنت؟ يقول: إن شاء الله، ولا يجزم، ويكره أن يقول: أنا مؤمن ويسكت، ووجه ذلك قوله: [وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم به في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله]، فهذا وجه كونهم يستثنون، فهم يستثنون ولا يجزمون لأنفسهم بأنهم قد أدوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم، ويخشون من تزكية النفس؛ لأن الإنسان محل تقصير، فمتى قال: (أنا مؤمن) ولم يستثن فقد زكى نفسه، وشهد لنفسه بأنه تام كامل الإيمان عند الله، وهذا لا يستطيع الإنسان أن يجزم به.

قال: [وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين] أي: بالنسبة للأحكام فإنهم يقولون: إن الناس كلهم مؤمنون، الفاسق والعاصي والمطيع كلهم يسمونهم مؤمنين [لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان] فولي المرأة الذي يعقد النكاح لها يشترط أن يكون مؤمناً، ولو كان فاسقاً ولو كان عاصياً، فالولاية ليست هي مجرد اسم الإيمان، وتصح ذبيحة المؤمن ولو كان عاصياً، والشهادة كذلك، وفي النكاح يزوج الرجل ولو كان عاصياً.

وقوله: [وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان] أي: هذه الأحكام إنما تتعلق بأصل الإيمان، أعني الولاية، والذبائح، والشهادات، والنكاح، أما الجزم بأن الإنسان مؤمن وأنه أدى ما عليه فهذا لابد من الاستثناء فيه، قال: [ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن؛ لقول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:٢٧]، وقد علم أنهم داخلون].

والجمهور من السلف والصحابة والتابعين يرون الاستثناء، وبعض العلماء كـ الأوزاعي يرى أن الأمر واسع، فلك أن تستثني ولك ألا تستثني.

ولهذا روى أبو عبيد بالسند عن الأوزاعي أنه قال: من قال: أنا مؤمن -يعني: بدون استثناء- فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن.

يعني: فهو مخير، واستدل بقول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:٢٧]، وقد علم أنهم داخلون، فدل على أنه لا بأس بالاستثناء، فمن استثنى فقد استدل بالآية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ فقال: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر، فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين.

إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:٣٢]].

قول المؤلف: [وهذا عندي وجه حديث عبد الله] هو ابن مسعود -[حين أتاه صاحب معاذ فقال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر] هؤلاء: ذكرهم الله في أول سورة البقرة، فذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين، والمنافقين -وهم الكفار باطناً والمؤمنون ظاهراً- في ثلاث عشرة آية.

فقال له صاحب معاذ: فمن أيهم كنت؟ فقال: من المؤمنين: ولم يقل من المؤمنين إن شاء الله.

يقول المؤلف وجه ذلك أنه على مذهب الأوزاعي يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء، قال: [فإنما نراه أنه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين] فمقصوده: أني كنت من أهل الإيمان، لا من الآخرين المنافقين والكافرين؛ لأن الإيمان في مقابل الكفر والنفاق، وليس مقصوده أنه يشهد عند الله أنه مؤمن كامل الإيمان أو أنه يزكي نفسه، ولهذا قال: [فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده] أي: من أن يريد أنه كامل الإيمان، فكيف يكون ذلك والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:٣٢].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والشاهد على ما نظن أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين].

أي أن الشاهد على أنه يريد أصل الإيمان ولا يريد التزكية أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن يريد به تزكية ولا غيرها، قال: [ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله لا يزيد على هذا اللفظ]؛ لأن هذا أصل الإيمان، وأما إطلاق الإيمان بدون استثناء يريد به التزكية فهذا لا يمكن أن يظن به، وقوله: [ولا نراه أنه كان ينكر على قائله بأي وجه كان]؛ لأن الأوزاعي وجماعة يرون الاستثناء وعدمه سواء، وهو الذي أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين فكلهم يرون أنه يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: أنا مؤمن، فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك].

أي: في الأول كان ينكر أن يقول: أنا مؤمن، ثم أجاب فقال: أنا مؤمن، فإن صح هذا عنه وثبت فهذا وجهه، وهو أنه يريد أصل الإيمان، أو يريد أن الأمر واسع على ما ذهب إليه إبراهيم وطاوس وابن سيرين والأوزاعي.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره، ويطعن في إسناده؛ لأن أصحاب عبد الله على خلافه].

هذا الأثر ضعيف؛ لأن في سنده رجلاً لم يسم، ولهذا يقول المؤلف: فقد رأيت يحيى بن سعيد ينكر هذا الأثر عن عبد الله، وهو أنه لما سئل قال: أنا مؤمن وسكت، فهذا لم يثبت عن عبد الله؛ لأن يحيى بن سعيد أنكر هذا الأثر وطعن في إسناده، لأن أصحاب عبد الله بن مسعود على خلاف ذلك، وأنه لابد من الاستثناء، لكن لو صح فهو يحمل على أن المراد أصل الإيمان أو أن المراد أن الأمر واسع على مذهب ابن سيرين وطاوس وإبراهيم والأوزاعي، لكنه لا يصح؛ لأنه مطعون في سنده، ويدل على ذلك أن أصحاب عبد الله على خلاف ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>