[افتراق أهل العلم في الإيمان إلى فرقتين]
قال المصنف: [اعلم رحمك الله أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين، فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، وشهادة الألسنة، وعمل الجوارح، وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر، وليست من الإيمان].
قوله: (اعلم) يعني: انتبه وألق سمعك لهذا الأمر.
قوله: (رحمك الله) دعاء، وهذا من نصحه رحمه الله.
قوله: (أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر) يعني: في مسمى الإيمان، ما هو مسمى الإيمان؟ قوله: (فرقتين) الفرقة الأول: الصحابة والتابعون وتابعوهم والأئمة، قالوا: إن مسمى الإيمان قول باللسان، وقول القلب وعمل القلب، وعمل الجوارح، وقالوا: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، وشهادة الألسنة، وعمل الجوارح، وهذا هو المذهب الحق الذي دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فينطق الإنسان بلسانه، ويشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً رسول الله، ويعمل بجوارحه، فيصلي ويصوم ويزكي ويحج ويبر بوالديه ويصل رحمه ويحسن إلى جيرانه، ويحسن إلى الفقراء واليتامى والمساكين والأرامل، ويكف جوارحه عما حرم الله عز وجل، فكل هذه أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب) عمل القلب، (وشهادة الألسنة) يعني: النطق باللسان، الألسنة جمع لسان، (وعمل الجوارح) الجوارح تعمل، واللسان ينطق، والقلب عنده إخلاص، وبر ونية وانقياد، ومحبة وخوف ورجاء من الله عز وجل، كل هذه من أعمال القلوب، والخوف من الله والرجاء، والنية والإخلاص، والمحبة والانقياد مع قول اللسان ومع أعمال الجوارح، كل هذه داخلة في مسمى الإيمان، هذه الفرقة الأولى.
قوله: (وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة) وهذا هو مذهب مرجئة الفقهاء، كـ أبي حنيفة وأصحابه من أهل الكوفة وهم طائفة من أهل السنة، قالوا: إن الإيمان شيئان: في القلب، وفي اللسان، في القلب التصديق والإقرار، وفي اللسان النطق، أما عمل الجوارح كالصلاة والصوم والزكاة والحج، فليست من الإيمان، ولكنها تقوى وبر، قالوا: نسميها تقوى ونسميها براً، ولا نسميها إيماناً ولو كانت مطلوبة، قالوا: فالإنسان عليه واجبان، واجب الإيمان وواجب العمل، ولا يدخل أحدهما في مسمى الآخر.
واختلفوا في أعمال القلوب: هل هي داخلة أو ليست داخلة؟ فمنهم من أدخلها ومنهم من أخرجها من مسمى الإيمان، وأما جمهور أهل السنة فقالوا: الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، أعمال القلوب وأعمال الجوارح، نسميها إيماناً ونسميها تقوى ونسميها براً، هي تقوى وبر وإيمان، أما مرجئة الفقهاء فقالوا: هي تقوى وبر وليست إيماناً، فالبر والتقوى غير الإيمان، الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وأما أعمال الجوارح نسميها تقوى ونسميها براً وهي مطلوبة وواجبة، ويثاب فاعلها، ويعاقب تاركها، ويقام الحد على من ارتكب كبيرة، لكن لا نسميها إيماناً، فهي ليست من الإيمان.
وإذا نظرنا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجدنا أن النصوص أدخلت الأعمال في مسمى الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٢ - ٤] وفي الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، والبضع من ثلاثة إلى تسعة.
وقد ألف الإمام البيهقي رحمه الله مؤلفاً في هذا سماه شعب الإيمان، تتبع ما ورد في النصوص بتسميته إيمان ووضعه في كتابه، وأوصلها إلى تسع وسبعين شعبة.
فالمؤلف رحمه الله يقول: إن أهل العلم والعبادة بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين: جمهور أهل السنة، ومرجئة الفقهاء، كلهم من أهل العلم والدين؛ لأن مرجئة الفقهاء طائفة من أهل السنة، لكنهم خالفوا النصوص في اللفظ وإن كانوا من أهل العلم والدين، إلا أن الفرقة الأولى أسعد منهم بالدليل، وهم الذين وافقوا النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لفظاً ومعنى، وتأدبوا مع النصوص وسموا الأعمال إيماناً، وأما مرجئة الفقهاء فإنهم أخرجوا الأعمال ولم يدخلوها في الإيمان.
وهناك فرقة ثالثة، لكنهم ليسوا من أهل العلم والدين، وهم المرجئة المحضة كالجهمية وغيرهم فإنهم قالوا: إن الإيمان مجرد معرفة القلب، ويتزعمهم الجهم بن صفوان ويقول: الإيمان معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جحد الرب بالقلب، فمن عرف ربه بإيمانه فهو مؤمن عند الجهمية، ومن جهل ربه بقلبه فهو كافر، وعلى هذا ألزم العلماء الجهم بأن إبليس مؤمن؛ لأنه عرف ربه بقلبه، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:٣٦]، وكذلك فرعون الذي ادعى الربوبية وقال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] مؤمن على مذهب الجهم؟ لأنه يعرف ربه بقلبه، قال الله تعالى عنه وعن ملائه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، واليهود على مذهب الجهم مؤمنون؛ لأنهم يعرفون ربهم بقلوبهم ويعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٤٦]، وأبو طالب ثبت في صحيح البخاري أنه مات على الشرك، فيكون على مذهب الجهم مؤمناً؛ لأنه يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، قال في قصيدة مشهورة: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا والجهمية ليسوا من أهل العلم والدين، ولهذا ما ذكرهم رحمه الله، ويسمون المرجئة المحضة، فهم يرون أن الأعمال ليست واجبة، وأن الإنسان لو ارتكب جميع الكبائر والمنكرات، وهدم المساجد وقتل الأنبياء والصالحين، وهو يعرف ربه بقلبه يكون مؤمناً! هذا مذهب الجهم كما بين ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية، والجهم بن صفوان ملحد كفره أهل العلم، والجهمية هناك من العلماء من كفرهم بإطلاق، ومنهم من بدعهم، ومنهم من كفر غلاتهم، وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أنه كفرهم خمسمائة عالم، قال: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان أي خمسمائة والإمام اللالكائي قد حكاه عنهم بل قد حكاه قبله الطبراني.
فالمقصود أن أهل العلم والدين -كما قال المؤلف رحمه الله- افترقوا في مسمى الإيمان إلى فرقتين: فرقة أدخلت أعمال القلوب وأعمال الجوارح في مسمى الإيمان مع تصديق القلب، والإقرار باللسان، وهذا هو مذهب الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وغيرهم من أهل العلم.
والطائفة الثانية: مرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة ومن تبعهم يرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان وتصديق القلب، وأما أعمال الجوارح وأعمال القلوب فهي مطلوبة، ويجب على الإنسان أن يؤدي الواجبات ويترك المحرمات إلا أنهم لا يسمونها إيماناً بل يسمونها تقوى وبراً، وأما جمهور أهل السنة فإنهم يسمونها إيماناً ويسمونها تقوى ويسمونها براً، فهي تقوى وإيمان وبر.