للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تأويل أبي عبيد لأحاديث: (ليس منا)]

قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: فهذه الآثار كلها وما كان مضاهياً لها فهو عندي على ما فسرته لك، وكذلك الأحاديث التي فيها البراءة فهي مثل قوله: (من فعل كذا وكذا فليس منا)، لا نرى شيئاً منها، يكون معناه التبرؤ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من ملته، إنما مذهبه عندنا: أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، وهذه النعوت وما أشبهها، وقد كان سفيان بن عيينة يتأول قوله: (ليس منا)، ليس مثلنا، وكان يرويه عن غيره أيضاً، فهذا التأويل وإن كان الذي قاله إمام من أئمة العلم فإني لا أراه من أجل أنه إذا جعل من فعل ذلك ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم لزمه أن يصير من يفعله مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا فرق بين الفاعل والتارك، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم عديل ولا مثل من فاعل ذلك ولا تاركه، فهذا ما في نفي الإيمان وفي البراءة من النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحدهما من الآخر وإليه يئول، وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه، إنما وجوهها: أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون، وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحواً مما وجدنا في النوعين الأولين].

هنا يقول أبو عبيد: إن هذه الآثار كلها وما كان مضاهياً لها فهو على ما فسرته لك مسبقاً بأن النفي إنما هو نفي كمال الإيمان وحقيقته وإثبات الأصل والاسم.

أما الأحاديث التي فيها البراءة مثل حديث: (برئ من الحالقة والصالقة)، وحديث: (من حمل علينا السلاح فليس منا)، وحديث: (من غشنا فليس منا)، وحديث: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين)، وحديث: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب) فمعناها: أننا لا نرى شيئاً منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من ملته، وإنما المراد: أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، فهذه لا توجب الكفر؛ لأنها معاصي، وليس معناها أن النبي تبرأ من دينه؛ لأنه مازال باقياً على اسم الإسلام.

قوله: (وقد كان سفيان بن عيينة يتأول فيقول: ليس منا أي: ليس مثلنا) ويروى هذا التأويل عن غيره من العلماء، والمؤلف يرد على سفيان تأويله فيقول: (فهذا التأويل وإن كان الذي قاله إمام من أئمة العلم فإني لا أراه) لماذا لا تراه صحيحاً يا أبا عبيد؟ قال: لأنه إذا قال: (ليس مثلنا) فهل معنى ذلك أنه إذا فعل هذه المعصية يكون مثل الرسول؟ لا، فلا يمكن أن يكون مثل الرسول، ولا يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التقوى والصلاح، فلذلك هذا التأويل غير صحيح.

كذلك المطيع هل هو مثل الرسول؟ لا يمكن أن يكون مثل الرسول، فلذلك أرى أن هذا التأويل أيضاً ليس بصحيح.

وإنما التأويل ليس من المطيعين لنا، ولذلك قال أبو عبيد: (فإني لا أراه من أجل أنه إذا جعل من فعل ذلك ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم لزمه - في المقابل - أن يصير من يفعله مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا فرق بين الفاعل والتارك، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم عديلاً ولا مثل من فاعل ذلك ولا تاركه) أي: لا يمكن أن يكون أحد عديل للنبي ولا مثله سواء كان مطيعاً أو غير مطيع.

قوله: (فهذا ما في نفي الإيمان وفي البراءة من النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحدهما من الآخر وإليه يئول) هذا تأويل نفي الإيمان وبراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الحالقة والصالقة والشاقة.

قوله: (أما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي فإن معناها عندنا ليس تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه) يقول: الأحاديث التي فيها (من حلف بغير الله فقد أشرك)، (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب)، ليس معناها أن صاحبه كافر كفراً يخرج من الملة، ولا مشرك شركاً في العبادة، إنما معناها: أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون.

قوله: (وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحواً مما وجدنا في النوعين الأولين) وجدنا لهذين النوعين أي: تأويل المؤلف، لكن الآن أنا أقول تعقيباً على المؤلف رحمه الله: الأحسن والأصوب في تأويل هذه النصوص أن يقال: هذه النصوص تفيد الوعيد والزجر، وأنها من الكبائر، وما سمي منها شركاً أو كفراً فهو أصغر لا يخرج من الملة ما لم يكن شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام.

وقول المؤلف رحمه الله هنا: (إنها ليس من شرائعنا، ولا من أخلاقنا، ولا من المطيعين لنا) نجد أن النووي رحمه الله أحياناً يتأول النصوص في شرح صحيح الإمام مسلم، وأئمة الدعوة وغيرهم من أهل العلم بينوا أن هذا ليس بجيد؛ لأن قوله: ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا يعتبر تأويلاً، والأصوب أن يقال: إن هذه الأحاديث وهذه النصوص تفيد الوعيد والزجر وأنها من الكبائر، ولا تفسر بل تبقى هذه النصوص على حالها حتى تفيد الوعيد والزجر عن هذه الكبائر؛ لأنك إذا قلت: (ليس من المطيعين لنا، ليس من المحافظين على شرائعنا) سهلت الأمر، فلا تفسرها بهذه التفسير؛ لأنك إذا فسرتها بهذا التفسير تساهل العاصي.

مثلاً حديث: (ليس منا من ضرب الخدود) فقولنا: ليس من المطيعين لنا، هذا أمر سهل، لكن تقول: هذا وعيد شديد يدل على أن هذه المعصية من الكبائر يفيد الوعيد والزجر، كذلك حديث: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) كفر أصغر لا يخرج من الملة، وحديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك) يعتبر شركاً أصغر إلا إذا كان شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام فإنه كفر أكبر، فالأصوب والأحسن أن يقال في تأويل هذه النصوص أنها تفيد الوعد والزجر وأنها من الكبائر، وما سمي منها شركاً أو كفراً فهو كفر أصغر أو شرك أصغر لا يخرج من الملة، ما لم يكن شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>