للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم التكلم بالكفر]

السؤال

البعض يستشهد بحديث الرجل الذي أوصى أبناءه عند الموت بإحراقه وذر رماده في يوم ريح على أن من تكلم بالكفر مهما كان لا يكفر، فهل هذا صحيح؟

الجواب

هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما، وهو أن رجلاً ممن كان قبلنا كان مسرفاً على نفسه، وفي لفظ: (لم يعمل خيراً) فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وأهله وقال: أي أب كنت لكم؟ فأثنوا عليه خيراً.

فقال: إنه لم يعمل، وإن الله إذا بعثه ليعذبنه عذاباً شديداً، وجاء في بعض الروايات أنه كان نباشاً للقبور، فلما حضرته الوفاة جمعهم وأخذ عليهم الميثاق والعهد أنه إذا مات أحرقوه، ثم سحقوه ثم ذروه في البر، وفي لفظ: أنه أمرهم أن يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، وقال: (لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً) وظن أنه في هذه الحالة يفوت على الله، ففعلوا به ذلك، فلما مات أحرقوه، ثم سحقوه وطحنوه، ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، وجاء في الحديث أن الله تعالى أمر البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فقال الله له: قم.

فإذا هو إنسان قائم، فقال الله: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: من خشيتك يا رب، فرحمه الله وغفر له.

وقد اختلف العلماء في هذا، فقال بعضهم: هذا في شرع من قبلنا وليس في شرعنا.

وأصح ما قيل في ذلك ما أقره الأئمة والعلماء، وهو أن هذا الرجل كان جاهلاً، وأن جهله كان في أمر دقيق خفي بالنسبة إليه، وأن الذي حمله على ذلك ليس العناد ولا التكذيب، ولكن الذي حمله على ذلك الجهل مع الخوف العظيم، فاجتمع أمران، جهل مع خوف عظيم فغفر الله له، فهذا الرجل لم يكن مكذباً بالبعث، بل هو يثبت البعث ويعتقد أنه لو ترك ولم يحرق ولم يسحق سيبعث، ولم ينكر قدرة الله، وكان يظن أن الله قادر عليه، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة فات على الله ولم يدخل تحت القدرة، وهذا الظن ليس الذي حمله عليه هو العناد ولا التكذيب، وإنما الذي حمله أمران: الأمر الأول: الجهل، والجهل إنما هو في أمر دقيق خفي، وليس كل جاهل يعذر، فمن أنكر أمراً معلوماً لكل أحد وهو معلوم له فإنه لا يعفى عنه، ومثال ذلك: لو أن إنساناً تعامل بالربا في مجتمعنا الآن ثم نهيته عن الربا وقلت له: لماذا تتعامل بالربا؟ فقال: أنا جاهل لا أدري.

فهل يعذر بالجهل؟ لا، وذلك لأن تحريم الربا يعرفه العام والخاص، لكن لو أن إنساناً أمريكياً أسلم في أمريكا وكان يعيش طول حياته في الربا، ولا يعرف إلا الربا، ثم تعامل بالربا، فلما قيل له: كيف أسلمت وتتعامل بالربا؟ قال: أنا لا أدري فإنه يعذر.

فالجاهل إذا كان جاهلاً في مسألة دقيقة خفية فإنه يعذر فيها، أما إذا كان الأمر واضحاً وليس دقيقاً ولا خفياً ومثله لا يُجهَل فإنه لا يعذر فيه، فهذا الرجل كان يجهل هذه المسألة، وهي دقيقة وخفية بالنسبة إليه، وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة فات على الله ولم يدخل تحت القدرة، ولم ينكر البعث، ولم ينكر أصل قدرة الله، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة فغفر الله له، وليس الذي حمله على ذلك التكذيب ولا العناد، وإنما الجهل مع الخوف العظيم، فغفر الله له، وهذا هو الصواب في هذه المسألة الذي قرره المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

<<  <  ج: ص:  >  >>