[حكم من جعل الإيمان المعرفة بالقلب فقط]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من جعل الإيمان المعرفة بالقلب وإن لم يكن عمل.
قال أبو عبيد: قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا في أن العمل من الإيمان، على أنهم وإن كانوا لنا مفارقين، فإنهم ذهبوا إلى مذهب قد يقع الغلَط في مثله، ثم حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعاً، ليست من أهل العلم ولا الدين، فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب لله وحده، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية؛ لمعارضته لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب].
عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب للرد على الجهمية، وهم المرجئة المحضة الغلاة الذين يقولون: إن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن عند الجهم بن صفوان، ولا يكون كافراً ولو فعل جميع المنكرات والكبائر وأنواع الردة، ولو هدم المساجد وقتل الأنبياء والمصلحين فلا يكون كافراً إلا إذا جهل ربه بقلبه، فأفسد وما قيل في حد الإيمان وتعريفه هو قول الجهمية.
قوله: (قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا) المراد بهم مرجئة الفقهاء: أبو حنيفة وأصحابه، فأهل السنة يقولون: العمل من الإيمان، ومرجئة الفقهاء يقولون: العمل ليس من الإيمان.
قوله: (على أنهم وإن كانوا مفارقين لنا) أي: مخالفين لنا ومذهبهم مذهب باطل إلا أن هذا المذهب قد يقع الغلط في مثله، فقد يكون صاحبه له شبهة تجعله يغلط، لكن المصيبة أن فرقة حدثت وشذت عن الطائفتين جميعاً، وهي الجهمية المرجئة المحضة الغلاة، فهذه الطائفة شذت الطائفتين، شذت عن مذهب أهل السنة والجماعة، وشذت عن مذهب مرجئة الفقهاء أيضاً، فمرجئة الفقهاء يقولون: العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، لكن يقولون: العمل مطلوب، فالواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، ومن فعل الواجبات عن إخلاص ومتابعة فإنه يستحق الثواب والمدح، ومن فعل الكبائر ورد في حقه الوعيد الشديد، ويقام عليه الحد إذا كان على المعصية حد، وإن كان هذا القول غلطاً إلا أنه أهون بكثير من مذهب الجهمية والمرجئة المحضة، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم والدين؛ لأنهم قالوا: الإيمان معرفة القلوب بالله وحده فقط، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، فهذا هو الإيمان عند الجهم.
فعندهم أن من صدق بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان ويدخل الجنة من أول وهلة، ولو لم يفعل شيئاً من الواجبات، ولو ارتكب جميع المحرمات والكبائر.
قوله: (وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية)، الملل: جمع مفرده الملة.
قوله: (لمعارضته كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب) يعني: هذا انسلاخ من الدين بالكلية وإبطال للشرائع، وإبطال للكتب المنزلة، وإبطال لما جاءت به الرسل، فهو مذهب باطل لمخالفته لما جاء به المرسلون وما أنزل الله به الكتب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ألا تسمع قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:١٣٦] فجعل القول فرضاً حتماً، كما جعل معرفته فرضاً، ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم، ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان، ولم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:١٣٦]، وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:٦٥]، وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦] النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً، ثم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى].
هذا فيه مناقشة من المؤلف رحمه الله للجهمية والمرجئة المحضة الذين يقولون: إن الواجب الإيمان فقط دون القول والعمل، قال: (ألا تسمع قوله سبحانه: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:١٣٦] فقوله: (قولوا) هذا أمر، والأمر للوجوب.
قوله: (فجعل القول فرضاً حتماً) يعني: فكما أن معرفة الله والإيمان به وتصديقه بالقلب فرض حتم، فكذلك القول والنطق باللسان هو فرض حتم، ولابد من أن ينطق المسلم بالشهادتين ويشهد لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولم يكتف الله تعالى بالمعرفة، ولهذا قال المؤلف: (ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم) بل قال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:١٣٦]، فدل على بطلان مذهب الجهمية الذين يقولون: القول غير واجب، وأنه تكفي المعرفة.
قوله: (ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان) قال عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:١٣٦] إلى آخر الآية، فالله تعالى أوجب القول وأوجب الإيمان بالكتب والرسل ولم يكتف بالتصديق.
قوله: (ولم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:١٣٦]) فدل على بطلان هذا المذهب الفاسد وفساده، وهو مذهب الجهم القائل بأن الإيمان مجرد المعرفة؛ لأن الله تعالى لم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:١٣٦]، ثم قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:١٣٦]، وكذلك -أيضاً- نفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في مسائل النزاع، فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:٦٥]، ولم يثبت الإيمان لأهل الكتاب مع كونهم يعرفون بقلوبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله، ويعرفون صدقه وصفته، فقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦]، ثم قال: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٤٦]، فأهل الكتاب يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم ولم تنفعهم هذه المعرفة؛ لأنهم لم يظهروا ذلك ولم يصدقوا، فدل على أن المعرفة لا تكفي، ولهذا علق المؤلف رحمه الله على هذه النصوص فقال: (فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً) أي: لم يجعل الله معرفة اليهود بالله إيماناً حين تركوا الشهادة له بألسنتهم.
قال: (ثم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) ولم يكتف بالمعرفة بالقلب، فدل على بطلان هذا المذهب وفساده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي عنهم بالمعرفة، ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض؛ إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة، والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب، ولو كان هذا يكون مؤمناً، ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث ثلاثة كقول النصارى، وصلى للصليب، وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله، لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمناً مستكملاً الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين، فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟ وهذا عندنا كفر لن يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط].
هذا بيان من المؤلف رحمه الله لمفاسد مذهب الجهمية الذين يزعمون أن الإيمان معرفة الرب بالقلب فقط.
قوله: (وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي منهم بالمعرفة) يعني أنهم زعموا أن الله اكتفى بهذا الإيمان.
قوله: (ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض) أي: لو كان الإيمان مجرد المعرفة لما عرف الإسلام من الجاهلية؛ لأن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، فكل يعرف ربه بقلبه ولو كان يهودياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان نصرانياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان وثنياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان من أهل الجاهلية، فعلى هذا المذهب لا يعرف الإسلام من الجاهلية، ولا يعرف الفرق بين ملة اليهودية وملة النصرانية وملة الوثنية.
قوله: (إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب) يعني: لو كان الإيمان هو مجرد المعرفة لرضي منهم بالدعوى على قلوبهم، ولكنه سبحانه وتعالى لا يرضى من المؤمن إيمانه إلا إذا أقر بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وتبرأ مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بقلبه ولسانه؛ لأن الله لا يرضى من المؤمن حتى يوحد الله ويخلص له العبادة ويتبرأ من الشرك قليله وكثيره، ويؤمن بالله ورسوله ويتبرأ من الأنداد والآلهة.
قوله: (ولو كان هذا يكون مؤمناً) يعني: بمعرفته بقلبه، (ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث ثلاثة كقول النص