وأرسله كسرى رسولاً له إلى إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية بالقسطنطينية وأكرمه القيصر وطاف به في أرجاء مملكته الواسعة، وكان من البلاد التي زارها في هذه الرحلة دمشق ويؤثر له فيها قصيدة قالها وكانت فيما يروى أول شعر نظمه. ومن هذه القصيدة:
رب دار بأسفل الجزع من دو ... مة أشهى إلى من جيرون
وندامى لا يفرحون بما نا ... لوا ولا يرهبون صرف المنون
وقدم عدي المدائن على كسرى بهدية قيصر، وبلغة خبر موت والده أثناء رحلته فاستأذن كسرى في زيارة أهله بالحيرة فتلقاه ملكها في وجوه الناس يعزونه.
وتزوج عدي هنداً بنت النعمان بن المنذر، وكانت من أجمل نساء أهلها وزمانها، وكان لعدي فضل في تولي النعمان عرش الحيرة بعد المنذر، فعظمت منزلة عدي في دولة المناذرة، وخاصة أن النعمان ربي على يد أستاذه عدي، ثم وشى الوشاة به إلى النعمان فحبسه حتى مات في حبسه.
[شخصيته وأخلاقه]
كان عدي من أجمل الناس، وأشدهم ظرفاً، وأكثرهم أدباً، وكان واسع الحيلة كثير الدهاء والذكاء كبير المعرفة والتجربة والخبرة بالحياة والناس، وكان لطيف المعاشرة، قوي الألفة والوفاء لأصدقائه.
وكان حسن الكلام رائع البيان، ساحر الحديث، بادي الفصاحة واللسن.
أما ديانته فيقول مؤلف كتاب "شعراء النصرانية": إنه كان نصرانياً، وكذلك كان أبوه وأمه وأهله. ويروى أن النعمان ملك الحيرة كان يعبد الأوثان، وأنه خرج يتنزه بظهر الحيرة ومعه عدي بن زيد فمرا على مقابرها فقال له عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا. قال: إنها تقول:
أيها الركب المخبون ... على الأرض المجدون
فكما أنتم كنا ... وكما نحن تكونون
فدخلت قلب النعمان الرقة وحب التدين، فرجع وتنصر.
ولست أجد مظهراً لنصرانية عدي في شعره، فليس فيه ما يوجد في شعر أمية بن أبي الصلت مثلاً من أساطير دينية وقصص الأنبياء، وما إلى ذلك، وأما الحكمة في شعره فلا تدل على نصرانيته، بل قد تدل على أنه كان متحنفاً.
ويروى أنه كان له كتاب في تاريخ الروم، أخذ عنه المسعودي، وهذا بعيد.
[شاعريته]
- ١ - كان لوراثات عدي العربية الأصيلة المطبوعة على البلاغة والبيان والشعر أثر في تنشئته الشعرية، كما كان لفطرته واستعداده الشخصي وثقافته وميله إلى التدين آثار في تنمية ملكاته وإرهاف مشاعره وذوقه وعاطفته ووجدانه، مما يساعد على تكوين ملكات الشعر ومواهبه.
وكانت بيئته الحيرة المتحضرة ومشاهدها، وكثرة رحلاته في البلاد، واتصاله بالملوك وخبرته الواسعة، وذكاؤه العجيب، باعثاً على تقوية خياله وكثرة معانيه، وسهولة أساليبه في الشعر.
ولقد سمع عدي وهو صغير الشعراء في الحيرة، ينشدون ملوكها الشعر الجيد، والمدائح العالية والقصائد المحبرة كالنابغة، وحسان، وعلقمة، والأعشى، والمتلمس، وطرفة، وسواهم. فغذى ذلك الجو الأدبي شاعريته وأيقظ فطرته الأدبية، ونشأه على الشعر ونظمه.
وكانت المنافسات الأدبية، ورغبته الحافزة في الفوق على أقرانه وفي استدامة نفوذه وجاهه الذين كانا له، مما يدفعه إلى قوله الشعر والإجادة فيه، إلى غير ذلك من بواعث شاعريته وأسبابها.
- ٢ - ويمتاز شعر عدي بكثرة المعاني وتنوعها ودقتها مع الوضوح والصدق، ولعل هذه الكثرة راجعة إلى أثر حياته وبيئته وثقافته في شعره.. والحكمة والتجربة الصادقة تشيعان في معانيه.
وخياله خيال غذي بالحضارة، فقلت صور البادية وأثرها فيه وفي شعره وتكثر فيه الصور العقلية وتقل الصور المادية في شعره، ومن ثم اتكأ خياله على العقل والفطنة لا على المحسات والمشاهدات المادية، وهو مقتصد في تشبيهاته ومجازاته.
ويمتاز أسلوبه بشيوع الرقة والسهولة، وعدم ظهور الجزالة ووضوحها فيه، ويرجع ذلك إلى بيئته الحضرية التي عاش فيها وهي بيئة الحيرة، وإلى كثرة إقامته بالمدائن، ورحلاته إلى بلاد الشام وسواها، مما أشاع في شعره السهولة، ولذلك كثر الغناء به، وقد كانت هذه السهولة مدعاة إلى اللين، مما عابه النقاد عليه، حتى قال ابن سلام فيه: