وجلا السيول عن الطول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها
فوقفت أسألها، وكيف سؤالنا ... صما خوالد ما يبين كلامها
ثم يصف رحيل أحبابه عنها، حتى يقول:
بل ما نذكر من "نوار" وقد نأت ... وتقطعت أسبابها ورمامها
مرية، حلت بفيد، وجاورت ... أهل الحجاز، فابن منك مرامها
وأخيراً، يرى لا أن يتسلى ويتعزى حتى يصل إلى رجائه وأمله، ولكن أن يقطع أمله منها ويترك رجاءه فيها ويقطع صلته بها مادامت نوار قد تغير وصلها:
فاقطع لبانة من تعرص وصله ... ولشر واصل خلة صرامها
ب - ثم يأخذ في وصف ناقته في لفظ غريب وتعبير بدوي متين، ويطيل في هذا الوصف ويشبهها بالأتان الوحشية وبالظبية الرؤوم المفجوعة إلى أن يقول:
فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى ... واجتاب أرجية السراب كامها
أقضي اللبانة لا أفرط ريبة ... أو أن يلوم بحاجة لوامها
أولم تكن تدري نوار بأنني ... وصال عقد حبائل جذامها
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
ج - ثم يتحدث عن نفسه وعزتها، ولذات الراح التي شارك فيها، وشجاعته وبطولته في مواقف النزال والنضال، وكرامه وسخائه، ونواله للجار الفقير والضيف النازل والجار الغريب وللبائسين والمساكين:
وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أعلامها
فالضيف والجار الغريب كأنما ... هبطا تبالة مخصبا أهضامها
تأوي إلى الأطناب كل رزية ... مثل البلية قالص أهدامها
د - ثم يفتخر بقومه ومآثرهم ورفهم ومجدهم فيقول:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
فبنوا لنا بيتاً رفيعاً سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها
وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأعظم حظنا قسامها
فهم السعاة إذا العشيرة أفظعت ... وهم فوارسها وهم حكامها
وهم ربيع للمجاور فيهم ... والمرملات إذا تطاول عامها
[أعشى قيس ٥٣٥ - ٦٢٩م]
[حياته]
١ - صناجة العرب أعشى قيس المعروف بالأعشى الأكبر، وهو أبو بصير ميمون بن جندل بن شراحبيل بن عوف بن سعد من قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
وقيس بن ثعلبة من أشهر القبائل شاعرية وأكثرهم شعراء، والأعشى هو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، وكانت العرب تتغنى بشعره وتسميه صناجة العرب.
ولقب بالأعشى لضعف في بصره.
٢ - والده قيس بن جندل يسمى قتيل الجوع، قال جهنام البكري:
أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل ... وخالك عبد من خماعة راضع
روي أنه دخل غاراً يستظل به من لفح الحر فوقعت صخرة فسدت الغار فمات جوعاً.
وأمه أخت المسيب بن علس الشاعر ٥٨٠م من بني خماعة من بني ضبيعة وتزوج امرأة من بني عنزة من هزان ثم طلقها.
٣ - ولد الأعشى بقرية من قرى اليمامة يقال لها منفوحة ونشأ راوية لخاله المسيب وتتلمذ عليه في الشعر وبدأ حياته شاباً فقيراً ماجناً يلعب القمار ويشرب الخمر، ثم سكن الحيرة وتردد على النصارى فيها يأتيهم ويشرب الخمر معهم، ثم جاب الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها يمدح ملوكها وأمراءها:
قد جبت مابين بانقيا إلى عدن ... وطال في العجم تردادي وتسياري
ويقول:
وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأورشليم
أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم
وكان تطوافه سبباً في كثرة معارفه وسعة ثقافته.
اتصل بنصارى نجران وبأهل الحيرة وبشريح بن السموءل اليهودي صاحب تيماء بحصنه "الأبلق" وعده بعض الباحثين من النصارى، والظاهر أنه لم يؤمن بدين وأن مسحة العقيدة النصرانية التي قد تبدو على شعره إنما كان منشؤها كثرة تردده على الحيرة ومعاشرته لأهلها.
وكان يوافي سوق عكاظ وينشد فيه شعره فيحفظ عنه ويغني به ولذلك كانت العرب تضيفه وتهاديه ليمدحها ويطير ذكرها.