كأن أبانا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل
وألقى بصحراء الغبيط بعاعه ... نزول اليماني ذي العياب المخول
كأن سباعاً فيه غرقى غدية ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
على قطن بالبشيم أيمن صوته ... وأيسره على الستار فيذبل
وألقى ببسيان مع الليل بركه ... فأنزل منه الغضم من كل منزل
[تحليل القصيدة]
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسيط الورى بين الدخول فحومل مطلع معلقة امرئ القيس الرائعة الشهرة، والتي تدل على شخصية صاحبها المرحة وروحه الموهوب، مجوته المأثور، وأسلوب القصيدة أسلوب جزل فيه أسر وقوة في عذوبة حيناً مع الجمال والصدق والتنقل في الخيال ومع سحر المطلع وفخامته.
ومعانيها قريبة لا تعقيد فيها تنكئ على الحسن والمشاهدات، فهو حين يتحدث عن الحب يصف جمال المرأة ومحاسنها، وحين يصف الفرس يتحدث عن ساقه ومتنه وشعره وحين يتحدث عن المطر يصف كثرته وأنه ألقى مياهه على جبل كذا وكذا ففزعت العصم وهدمت البيوت وسقطت جذوع النخل، دون أن يتحدث الشاعر عما وراء هذه الأوصاف الحسية في الخيل والمطر أو عن عواطفه الإنسانية في حبه وغزله.
وتمتاز المعلقة بأنها مظهر للبلاغة العربية، وبما فيها من أساليب البيان، ومناهج الأداء وصور التعبير، وألوان الرسم والخيال والتفكير، فيها تشبيهات بليغة عذبة كثيرة واستعارات جميلة بالغة، وكنايات أنيقة ساحرة، وسوى ذلك من أدوات التعبير والبيان. ولتفصيل ذلك كله نقول: للمعلقة مطلعها الساحر القوي وأسلوبها الجزل، وخيالها البدوي الموهوب وتشبيهاتها الحسية الساذجة المكرورة أحياناً، وفيها فوق ذلك وبرغم الكثير من ألفاظها البدوية الجافة ورقة النسيب ودقة الوصف وتنوع الأغراض وبراعة التصوير والبيان، وفيها جل ما ابتكره امرؤ القيس من المعاني الشعرية التي فضل بها على غيره من الشعراء وعدبها أميرهم وقائدهم، ففيها بكاء للديار واستيقاف للصحب وتجويد في النسيب وتصوير لاستهتاره ومجونه، وقص لذكرياته وأيامه، وإبداع في وصف الليل وطوله "والفرس ومحاسنه، والبرق، والمطر وآثاره".
وفي المعلقة الكثير من التشبيهات الجميلة، كتشبيه موقفه حين رحيل أحبابه بموقف الحنظل، وغزارة ما ينهمر منهما من دموع، وكتشبيه عبق الرائحة من حبيبه بعبق رائة النسيم، قد جاء بريا القرنفل. وتشبيه شحم ناقته بهداب الدمقس المفتل، والثغر بالأقحوان المنور، وتعرض الثريا في السماء بتعرض أثناء الوشاح المفصل، وتشبيه ترائب المرأة بالمرآة المجلوة، وجيدها بجيد الظباء، وبنانها بأساريع الظبي، وجمالها المشرق بمنارة الراهب المتبتل، وتشبيه الليل بموج البحر واهتزام الفرس بغلي المرجل. فقد أخذ الحسن من جميع الحيوانات، أخذ من الظبي خاصرته، ومن النعامة ساقها، ومن الذئب والثعيلب مشيهما، فهو جواد ويا له من جواد ضافي الذيل مستقيم العسيب، لماع الظهر كما تلمع صلاية الحنظل مما يعلق بها من الدهن اللامع، أو صلاية عروس تدق فيها العطر والطيب، وكأن دماء هوادي فرائسه في نحره المخضوب عصارة حناء في شيب مسرح.
وتمتاز المعلقة بكناياتها الساحرة، كنؤوم الضحى في وصف المرأة بالترف والنعمة وقوله "لم تنتطق عن تفضل" في وصفها بأنها عزيزة منعمة لم تعز بعد ذل ولم تنعم بعد شقاء، وقوله "إذا ما اسبكرت بين درع ومجول" يريد إذا بلغت سن الشباب لأنه الدرع هو قميص المرأة والمجول ثوب تلبسه الفتاة وتجول فيه قبل أن تخدر، وقوله "قيد الأوابد" في وصف الفرس بسرعة العدو، وقوله: ولم ينضح بماء فيغسل في وصفه بالنشاط. ومنها كثير من المجازات الجميلة والاستعارات المبدعة كقوله "فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي" يريد بالثياب القلب أو الصداقة. وقوله "وبيضة خدر" يريد امرأة كريمة مخدرة. وقوله في وصف الليل بالطول "فقلت له لما تمطى بصلبه" وقوله "وتتقي بناظرة من وحش وجرة" وكذلك قوله "له أيطلا ظبي وساقا نعامة" من أساليب التجريد أو التشبيه الجميلة.