واتصل بالفرس في اليمن وسمع محاوراتهم وقصصهم، كما اتصل بالكهان والأحبار والقسس في الشام وسمع عظاتهم، وشاهد مظاهر القلق الروحي البادية في تفكير بعض العرب المتعبدين أمثال: زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، ويبدو أنه كان عالماً بغير العربية على ما يظهر فاطلع على كتب القدماء وخصوصاً التوراة والإنجيل.
وهكذا نشأ أمية مفطوراً على التدين، موهوباً ملكات الشاعرية القوية الجياشة.
وسافر إلى الشام في رحلات تجارية كما سافر إلى اليمن فلقي في رحلته بعض المتدينين هناك وسمع أخبارهم وعظاتهم، فرغب عن عبادة الأوثان وزهد في الدنيا، واستزاد النظر في الأديان وطلبها من أهل الكتاب، وروى الكثير من أخبار اليهود والنصارى وأقاصيص الشيوخ في الجاهلية من الذين يعبدون الله على دين إبراهيم وإسماعيل، وخاض في التوحيد وأمر الآخرة وتعبد ولبس المسوح وحرم الخمر والزنا والقمار على نفسه، ورأى في الكتب الدينية ما يبشر ببعثة نبي من العرب فطمع في أن يكون هو النبي المنتظر، وأخذ يدعو الناس إلى الحيفية دين إبراهيم وإسماعيل ويظهر التأله طمعاً في نزول الوحي عليه، ومع ميله إلى الحنيفية ملة إبراهيم السمحاء فقد كان لا يقلع عن التردد على الأديار، يجافس الرهبان ويختلف إلى الكنائس، يحاور القسس ويخبر الناس أن نبياً يخرج قد أطل زمانه.
ولما بعث محمد رسول الله صلوات الله عليه وقام بالدعوة، أدرك أمية الحسد وكفر به، وقال: "إنما كنت أرجو أن أكونه"، فنزل قوله تعالى: "واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين"، ثم أخذ يحرض على الرسول ويرثي قتل أعدائه في موقعة بدر، فنهى عن رواية شعره في ذلك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع شعره في التوحيد يقول "آمن لسانه وكفر قلبه"، ويقول "كاد ليسلم" كما روى الإمام مسلم في صحيحه: ولم يطق أمية - بعد أن شاهد ذيوع الدعوة وانتشار الإسلام - أن يقيم على مقربة منه، فذهب بابنيه إلى أقصى اليمن ولكنه عاد إلى الطائف ثانياً بعد هجرة رسول الله إلى المدينة. وبقي بها إلى أن توفي في السنة التاسعة من الهجرة عام ٦٢٤م، ويروون أنه لما مرض مرضته التي مات فيها جعل يقول "قد دنا أجلي وهذه المرضة منيتي وأنا أعلم أن الحيفية حق ولكن الشك يداخلني"، وأنه لما دنت وفاته أغمي عليه قليلاً ثم أفاق وهو يقول:
لبيكما لبيكما ... هأنذا لديكما
لا مال يفيدني ... ولا عشيرة تنجيني.
وأغمي عليه ثم أفاق وهو يقول ذلك البيت ويصله بقوله: "لا برئ فاعتذر ولا قوي فانتصر" وأغمي عليه ثالثة ثم أفاق وهو ينشد البيت المذكور ويصله ببيت آخر بعده هو:
إن تغفر اللهم تعفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
وأقبل على القوم فقال: قد جاءني وقتي فكووا في أهبتي. واستمر يحدثهم حتى كان آخر قوله هذه الأبيات:
كل عيش وإن تطاول دهرا ... منتهى أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
فاجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر، إن للدهر غولا
وقد تكون هذه القصة من أساطير الرواة.
وبذلك انتهت حياة أمية، ومات ولم يؤمن بدين الإسلام والتوحيد، بعد أن كان داعية الطهر والتوحيد، وتوفي عام ٩ هـ وفي كتاب شعراء النصرانية أن وفاته كانت في السنة الثانية من الهجرة.
[ألوان من حياته]
١ - كان لأمية ابن عاق فأنشد فيه قصيدته:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً ... تعل بما أحنى عليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت ... لشكواك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي منك هجرا وغلظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
وسميتني باسم المفند رأيه ... وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
وهي نمط جميل من الشعر العالي، وتصوير لما لقي أمية من ابن من أبنائه من جفاء وعقوق.