٧ - يضاف إلى ذلك فطرة الشاعر وخلقه وصفاته من حدة الذهن واضطرام الشعور وثوران العواطف والتهاب المشاعر، إلى ما سوى ذلك من أسباب الشعر وبواعثه في نفس الشاعر.
ولا عجب ذلك، فقد كانت ملكات البلاغة والشعر قوية في نفس طرفة حتى في طفولته، ولقد روي أن المتلمس شاعر ربيعة في زمانه وخال طرفة وقف على مجلس لقومه من بني قيس بن ثعلبة فاستنشدوه، فأنشدهم شعراً، جاء فيه:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم
والصيعرية: سمة تكون للإناث خاصة فقال له طرفة وهو غلام - وطرفة لا يعرفه -: استنوق الجمل، أي وصفت الجمل بوصف الناقة وخلطت، فذهبت كلمته مثلاً، وضحك القوم وغضب المتلمس، ونظر إلى لسان طرفة وقال: ويل لهذا مني. يعني رأسه من لسانه. ويروى أن تلك القصة كانت مع عمرو بن كلثوم لا مع المتلمس (٤٠ و ٤١ جمهرة أشعار العرب) .
[خصائص شاعريته]
أولاً، من حيث الألفاظ: يجمع طرفة بين العذوبة الجميلة السلسة والوحشية الغريبة المعقدة في ألفاظه. فإذا وصف رأيت ألفاظاً بعيدة غريبة قوية ضخمة مسرفة في حوشيتها وغرابتها، وإذا فخر أو هجا رأيته يقرب من السهولة والوضوح في لفظه، وإذا أرسل الحكمة رأيت جمالاً وسلاسة وسهولة.
والظاهر أن مرجع ذلك هو حياة الشاعر الشعرية، فقد بدأ في صغره ينظم الشعر، يصف به مشاهد الطبيعة وروائعها الماثلة أمام بصره، وكانت شاعريته في بدء أمرها قوية خشنة قوة البداوة وخشونة الصحراء، فقوي في ألفاظه وأغرب، ثم أخذت شاعريته تنضج وبدأ يكثر من قصائده في الفخر بأحسابه وهجاء خصومه فأخذت ألفاظه تلين وتسهل، ثم خبر الحياة وطاف في الأرجاء وشاهد ألواناً من التفكير والمذاهب والآراء، فكانت شاعريته قد كمل نضجها. فبدأت ألفاظه تسلس وتسهل وتقرب من ذوق البدوي المتحضر الذي يبعد عن حياة الخشونة ومظاهر الإغراب في البداوة.
ثانياً، من حيث الأسلوب: وأسلوب طرفة قوي جزل رصين، يمتاز بالمتانة، وأسر اللفظ وفخامة الأسلوب وقوة القافية مع سهولتها.
تجد فيه جزالة وقوة في كثير من شعره، ورقة وسهولة في بعض غزله وفي حكمته وفي عتابه وفي وصف مطامحه وآماله وآلامه.
والجزالة والرقة تختلف موضعها باختلاف المقام ومواطن الكلام وفنونه والمناسبات التي تسنح للشاعر فتجعل نفسه مرحة فرحة أو تجعلها مكتئبة كزة نافرة.
وفي أسلوبه معاظلة في التركيب وتعقيد في الكلام حيناً، وفي غالب الأحايين نجد وضوحاً ودقة تصوير وجمال تعبير وقرب مأخذ وسهولة عرض ورشاقة بيان.
ثالثاً، من حيث المعاني والأخيلة: معاني طرفة تتصل بنفسه وحياته وقبيلته وبالصحراء والبادية التي عاش فيها وبتاريخ قومه وأحسابهم وبالحياة العربية عامة اتصالاً وثيقا.
وطرفة في معانيه قريب، واضح أحياناً، وخفي معقد حيناً، يقتصر على بيان الحقيقة، قليلة الغلو والمبالغة، يصور الحقائق والواقع تصويراً قوياً.
وخياله خيال يقظ مشبوب حاد. يحلق قريباً من الحياة والواقع، يظهر في أسلوب الاستعارة والتشبيه أحياناً، ويجنح إلى القصد والاعتدال والصدق. وفي معانيه معان مكرورة، متقاربة الخيال. وطرفة على أي حال من المقلين في الشعر، ومعلقته سبب شهرته وتمتاز بوفرة معانيها وتنوع أغراضها وقوة قافيتها وصدق تصويرها.
رابعاً، من حيث أغراض الشعر وفنونه: ولقد نظم طرفة الشعر في أغراض كثيرة وأجاد فيها إجادة بليغة. ومن أهم هذه الأغراض: ١ - الهجاء: فقد كان طرفة هجاء. هجا عمرو بن هند الملك، كما هجا ابن عمه عبد عمرو. وهجا قومه كما هجا أعداءهم، وتنبأ له المتلمس منذ طفولته بالقتل بسبب نشأته وفطرته على الهجاء.
ترجع أسباب ميله إلى الهجاء إلى توقد عاطفته وحدة شعوره واضطرام حسه وإلى قوة اعتزازه بنفسه وشدة تأثره مما يشعر به من تقصير في حقه من قومه وسواهم وإلى يتمه الذي جعله يتوهم العداوة من الصديق والضر حتى من القريب.
يقول في قومه:
أدوا الحقوق تفر لكم أعراضكم ... إن الكريم إذا يحرب يغضب
ويقول في ابن عمه:
ولا خير فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحا إذا قام أهضما
ويقول في عمرو بن هند:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور