وآخرون يروون أن بعض العرب ممن كان مع امرئ القيس ذكروا للقيصر أن امرأ القيس قال لقومه إنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، فأرسل قيصر إليه حلة مسمومة فلما لبسها أسرع فيه السم وسقط جلده؛ ومن أجل هذا سمي "ذا القروح" ومات بأنقرة وهو عائد من القسطنطينية. والظاهر أن امرأ القيس أصيب أثناء عودته بمرض جلدي سبب له قروحاً.
كان دين امرئ القيس الوثنية وكان غير مخلص لها. فقد روي أنه لما خرج للأخذ بثأر أبيه مر بصنم للعرب تعظمه يقال له ذو خلصة. فاستقسم بقداحه وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص. فأجالها فخرج الناهي. فعل ذلك ثلاثاً فجمعها وكسرها. وضرب بها وجه الصنم. وقال: "لو كان أبوك قتل ما عقتني".
وكان امرؤ القيس يلقب بالملك الضليل؛ وبذي القروح؛ لما أصيب به في مرضه على ما ذكرناه.
- ٣ -
[ألوان من حياة امرئ القيس]
كان حجر في بني أسد، وكانت له عليهم إتاوة في كل سنة مؤقتة فغبر ذلك دهراً، ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجيبهم؛ فمنعوه ذلك - وحجر يومئذ بتهامة - وضربوا رسله؛ وضرجوهم ضرجاً شديداً قبيحاً.
فبلغ ذلك حجراً، فسار إليهم بجند من ربيعة وقبس وكنانة. فأتاهم وأخذ سراتهم. فجعل يقتلهم بالعصا. وأباح الأموال؛ وصيرهم إلى تهامة؛ وآلى بالله ألا يساكنوهم في بلد أبداً؛ وحبس منهم عمرو بن مسعود الأسدي، وكان سيداً؛ وعبيد بن الأبرص الشاعر؛ فسارت بنو أسد ثلاثاً.
ثم إن عبيد بن الأبرص قام فقال: أيها الملك اسمع مقالتي:
يا عين فابكي من بني ... أسد فهم أهل الندامة
أهل القباب الحمر والن ... عم المؤبل والمدامة
وذوي الجياد الجرد والأ ... سل المثقفة المقامة
حلا أبيت اللعن حلا ... إن فيما قلت آمة
في كل واد بين يث ... رب فالقصور إلى اليمامة
تطريب عان أو صيا ... ح محرق أو صوت هامة
ومنعتهم نجداً فقد ... حلو على وجل تهامة
برمت بنو أسد كما ... برمت ببيضتها الحمامة
جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامة
إما تركت عف ... واً أو قتلت فلا ملامة
أنت المليك عليهم ... وهم العبيد إلى القيامة
ذلوا لسوطك مثل ما ... ذل الأشيقر ذو الخزامة
فرق لهم حجر حين سمع قوله، فبعث في أثرهم فأقبلوا، حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم فقال لبني أسد: من الملك الأصهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخب؟ هذا دمه ينثعب وهذا غداً أول من يسلب.
قالوا: من هو؟ قال: لولا أن تجيش نفس جاشية؛ لأخبرتكم أنه حجر ضاحية.
فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر فهجموا على قبته، وهزموا أصحابه وأسروه فحبسوه، وتشاور القوم على قتله، فقال لهم كاهن من كهنتهم بعد أن حبسوه ليروا رأيهم فيه: أي قوم! لا تعجلوا بقتل الرجل حتى أزجر لكم.
فانصرف عن القوم لينظر لهم في قتله، فلما رأى ذلك علباء بن الحارث الكاهلي خشي أن يتواكلوا في قتله، فدعا غلاماً من بني كاهل - وكان ابن أخته - فقال: يا بني، أعندك خير فتثأر بأبيك، وتنال شرف الدهر، وإن قومك لن يقتلوك؟!.
فلم يزل بالغلام حتى حربه، ودفع إليه حديدة وقد شحذها وقال: ادخل عليه مع قومك، ثم اطعنه في مقتله.
فعمد الغلام إلى الحديدة فخبأها، ثم دخل على حجر في قبته التي حبس فيها.
فلما رأى الغلام غفلة وثب عليه فقتله؛ فوثب القوم على الغلام فقالت بنو كاهل: ثأرنا وفي أيدينا!.
فقال الغلام: إنما ثأرت بأبي، فخلوا عنه.
وأقبل كاهنهم المزدجر فقال: أي قوم! قتلتموه! ملك شهر، وذل دهر، أما والله لا تحظون عند الملوك بعده أبدا.
ولما طعن الغلام حجراً ولم يجهز عليه، أوصى ودفع كتابه إلى رجل وقال له: انطلق إلى ابني نافع. وكان أكبر ولده - فإن بكى وجزع فاله عنه؛ واستقرهم واحداً واحداً؛ حتى تأتي امرأ القيس - وكان أصغرهم - فأيهم لم يجزع؛ فادفع إليه سلاحي وخيلي وقدوري ووصيتي، وبين في وصيته من قتله؛ وكيف كان خبره.