قال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. قال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى! والله لئن أتى محمداً وأتبعه ليضر من عليكم نيران العرب بشعره. فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله.
[شعر الأعشى]
١ - للأعشى ديوان شعر كبير طبع مراراً، وقد قدمه كثير من النقاد محتجين بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وقيل إنه أمدحهم للملوك وأوصفهم للخمر وأغزرهم شعراً وأحسنهم قريضا. وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده: أدبهم برواية شعر الأعشى فإن لكلامه عذوبة، قاتله الله ما كان أعذب بحره وأصلب صخره فمن زعم أن أحداً من الشعراء أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر.
ومهما كان فهو أحد الأربعة الذين وقع الاتفاق على تقديمهم على من عداهم وهم: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى، فهو من الطبقة الأولى عند كثير من النقاد ويروى أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب.
٢ - ويمتاز شعره بمعارفه الواسعة، وقد أدخل فيه ألفاظاً فارسية لإقامته في الحيرة، ووصف سيل العرم والقصر الأبلق.
وأكثر الأعشى من وصف الخمر وما إليها من نديم وساقي وقينة وعود وأطال في ذلك حتى عد إمام الأخطل وأبي نواس.
٣ - وعلى أي حال، فعلى شعره رونق الحسن وطلاوة الأسلوب والبراعة في وصف الخمر والإجادة مع الطول.
ولقوة طبعه وجلبة شعره سمي صناجة العرب حتى ليخيل إليك إذا أنشدت شعره أن آخر ينشده معك. ولجلالة شعر الأعشى وأثره بين العرب كان يرفع الوضيع الخامل وتضع الخامل الشريف.
ومن شعره قصيدته التي مدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعدها بعضهم من المعلقات، ومطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم حلة مهددا
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن ... إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا
شباب وشيب وافتقار وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفي حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله ندى
نبي يرى مالا يرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم يمنعه غدا
ومن شعر الأعشى قصيدته اللامية المعروفة التي يقول منها:
صدت هريرة عنا ما تكلمنا ... جهلاً بأم خليد حبل من تصل؟
أئن رأت رجلاً أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر مفند خبل
قالت هريرة لما جئت زائرها: ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل
إما ترينا حفاة، لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وقد أقود الصبا يوما، فيتبعني ... وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلوب شلشل شول
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
نازعتهم قضب الريحان متكئا ... وقهوة مزة رواوقها خضل
لا يستفيقون منها، وهي راهنة ... إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا
يسعى بها ذو زجاجات له نطف ... قلص أسفل السربال معتمل
ومستجيب تخال الصنج يسمعه ... إذا ترجع فيه القينة الفضل
والساحبات ذيول الربط آونة ... والرافلات على أعجازها العجل
من كل ذلك يوم قد لهوت به ... وفي التجارب طول اللهو والغزل
أبلغ يزيد بني شيبان مألكة ... أبا ثبيت أما تنفك تأتكل
ألست منتهياً عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطت لأبل
كناطع صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
تغرى بنا رهط مسعود وإخوته ... يوم اللقاء، فتردى، ثم تعنزل
لا أعرفنك إن جدت عداوتنا ... والتمس النصر منكم عوض تحتمل