عفت الديار محلها فمقامها ... بمن تأبد غولها فرجامها
ويظهر أنه قالها في شبابه وهي تمثل الشعر البدوي في متانته وقوته.
وفي شعره بعد ذلك - وهو الذي عمله في الكهولة والشيخوخة على ما يظهر - أثر الحكمة وقوة الشعور الديني كزهير، مثل قوله:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعدما هو ساطع
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولابد يوماً أن ترد الودائع
وما الناس إلا عاملان: فعامل ... يتبر ما يبنى، وآخر رافع
وقصيدته التي مطلعها:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نفيم لا محالة زائل
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل
وقصيدته:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل
أحمد الله ولا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وكان لبيد أحدث أصحاب المعلقات عصرا وآخرهم موتا.
وشعر لبيد مثال للفخامة والقوة والمتانة والبداوة فتراه فخم العبارة قوي اللفظ قليل الحشو مزدانا بالحكمة العالية والموعظة الحسنة.
ولبيد من أحسن الجاهليين تصرفا في الرثاء وفخره قوي ينم عن شرفه وعزته ومجده وحسبه العريق. وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
وقد نظم لبيد الشعر في جاهليته وجرى به على سنن الأشراف والفرسان كعنترة وعمرو بن كلثوم فلم يتكسب بشعره ولذلك ترى فيه ولاسيما معلقته قوة الفخر والتحدث بالفتوة والنجدة والكرم وإيواء الجار وعزة القبيلة، ولم ينظم شعراً بعد أن أسلم.
هذا ويقدم لبيد بعض النقاد محتجين بأنه أفضلهم في الجاهلية والإسلام وأقلهم لغواً في شعره، وقالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله لبيدا ما أشعره في قوله:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
لا ينفعون ولا يرجى خيرهم ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
وكان لبيد جواداً شريفاً في الجاهلية والإسلام وقصص جودة كثيرة.
[ديوان لبيد]
شرحه السكري والشيباني والأصمعي وابن السكيت والطوسي. ولم يصل إلينا من ذلك كله إلا نصف شرح الطوسي في مخطوطة طبعها في فيينا يوسف ضياء الدين الخالدي المقدسي سنة ١٨٨٠ وفيها عشرون قصيدة هي الجزء الثاني من الديوان وقد صدرت بمقدمة عن الديوان والشاعر.
وكذلك عنى بالديوان المستشرق هوبر الذي طبعه في ليدن سنة ١٩٨١ ووضع مقدمة له في حياة لبيد، وأخرجه بإشراف بروكلمان.
ولمعلقة لبيد شروح، وقد نشرها دي ساسي وقد ترجمها إلى الفرنسية أيضاً.
[مصادر حياة لبيد]
ترجم له صاحب الأغاني في الجزء الرابع عشر، وابن قتيبة في الشعر والشعراء وذكره ابن سلام في طلبقات الشعراء والمرزباني في الموشح.
وترجم له صاحب كتاب "تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي"، والزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي، وأصحاب الوسيط والمفصل وسواهم. وترجم له أيضاً في سلسلة الروائع.
[معلقة لبيد]
لبيد بن ربيعة العامري من سادة العامريين القيسيين وأشرافهم وكان يقال لأبيه ربيعة المعتربن وعمه ملاعب الأسنة عامر بن مالك أخذ أربعين مرباعا في الجاهلية.
كان لبيد من شعراء الجاهلية وفرسانهم وقال الشعر في الجاهلية في كل غرض، وأجرك الإسلام وأسلم وهجر الشعر وأقام بالكوفة إلى أن مات عام ٤١هـ مائة وسبع وخمسين سنة.
وسئل لبيد من أشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل، ثم الشاب القتيل، ثم الشيخ أبو عقيل يعني نفسه. وهو من أصحاب المعلقات، وكان نظم لبيد الجاهلية فجم العبارة منضد اللفظ قليل الحشو مزداناً، فالحكمة العالية ثعات، وهو أحسن الجاهليين تصرفاً في الرثاء، وأكثرهم قدرة على تصوير عواطف المفجوع الحزين بلفظ رائق وألوب مؤثر، وقدمه بعض النقاد "لأنه أفضل الشعراء في الجاهلية والإسلام، وأقلهم لغواً في شعره".
ومعلقته لبيد تمتاز بقوة اللفظ ومتانة الأسلوب، وبما فيها من تصوير للبادية والحياة والأخلاق فيها.
أ - بدأها لبيد بذكر الديار وخلوها من أصحابها وتعرضها للرياح والأمطار تعبث بها ويمحو معالمها. قال:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمعنى تأبد غولها فرجامها