وقال الأعشى يمدح السموءل، ويستجير بابنه شريح بن السموءل من رجل كلبي كان الأعشى هجاه ثم أغار على قوم كان الأعشى نازلاً فيهم، فأسره وهو لا يعرفه، ثم سار حتى نزل بشريح بن السموءل فأحسن ضيافته، ومر بالأسرى فناداه الأعشى:
سريح، لا تسلمني بعد ما علقت ... حبالك اليوم بعد القد أظفاري
قد سرت ما بين بلقاء إلى عدن ... وطال في العجم تكراري وتسياري
فكان أكرمهم عهداً وأوثقهم ... عقداً أبوك بعرف غير إنكار
كالغيث مااستمطروه جاد وابله ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار
إذ سامه خطتي خسف فقال له ... قل ما تشاء فإني سامع حار
فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر. وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له: ... اقتل أسيرك، إني مانع جاري
هذا له خلف إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريما غير خوار
وسوف يعقبنيه إن ظفرت به ... رب كريم وقوم أهل اطهار
فاختار أدراعه كي لا يسب به ... ولم يكن وعده فيها بخنار
فجاء شريح الكلبي فقال: "هذا الأسير المنصور" فقال "هو لك" فأطلقه وقال له الأعشى "إن تمام إحسانك إلى أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة" فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح: "ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه" فقال: "قد مضى" فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه.
ولما وفد الأعشلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مدحه بقصيدته التي أولها:
ألم تغمض عيناك ليلة أرمدا ... وعاك ما عاد السليم المسهد
وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
وفيها يقول لناقته:
فأليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفا حتى تزور محمدا
نبي يرى مالا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله يدا
فبلغ خبره قريشاً قط، فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحداً قط إلا رفع قدره.
فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك. قال: وما هي؟ فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال: لقد تركني الزنا وتركته، ثم ماذا؟ قالوا: القمار. قال لعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضاً من القمار، ثم ماذا؟ قالوا: الربا. قال: ما دنت ولا أدنت، ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشربها.
قال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. قال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى! والله لئن أتى محمداً وأتبعه ليضر من عليكم نيران العرب بشعره. فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله.
[شعر الأعشى]
١ - للأعشى ديوان شعر كبير طبع مراراً، وقد قدمه كثير من النقاد محتجين بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وقيل إنه أمدحهم للملوك وأوصفهم للخمر وأغزرهم شعراً وأحسنهم قريضا. وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده: أدبهم برواية شعر الأعشى فإن لكلامه عذوبة، قاتله الله ما كان أعذب بحره وأصلب صخره فمن زعم أن أحداً من الشعراء أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر.
ومهما كان فهو أحد الأربعة الذين وقع الاتفاق على تقديمهم على من عداهم وهم: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى، فهو من الطبقة الأولى عند كثير من النقاد ويروى أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب.
٢ - ويمتاز شعره بمعارفه الواسعة، وقد أدخل فيه ألفاظاً فارسية لإقامته في الحيرة، ووصف سيل العرم والقصر الأبلق.
وأكثر الأعشى من وصف الخمر وما إليها من نديم وساقي وقينة وعود وأطال في ذلك حتى عد إمام الأخطل وأبي نواس.