أ - وعمرو بن كلثوم شاعر غمر البديهة رائق الأسلوب، نبيه الغرض وإن كان مقلاً، لم يتقلب في فنون الشعر ولم يرخ العنان لسليقته، شغلته الرياسة وخوض الحروب وتكسب الشعراء بالشعر عن أن يفيض في الشعر ويطرق أكثر أبوابه، ولذلك لم يشتهر إلا بمعلقته التي قامت له مقام الشعر الوفير، لحسن لفظها وانسجام عبارتها ووضوح معناها ورشاقة أسلوبها وعلو فخرها ونباهة مقصدها، ورويت له مقطعات، لم يخرج فيها عن أغراض معلقته.. ولعل شهرته بالخطابة لا تقل عن شهرته بالشعر.
ب - وأسباب شاعريته ترجع إلى: ١ - أسرة الشاعر وكثرة الشعراء منها ومن قبيلته.
٢ - بيئته في الجزيرة الفراتية واتصالها بثقافات كثيرة منها ثقافة النصرانية التي انتشرت فيها، ومنها الثقافة الفارسية التي لابد أن تكون قد أحدثت آثارها في هذه النواحي الخاضعة لنفوذ الحيرة وملوكها.
٣ - مجد الشاعر وحسبه فقد أنطقاه بهذا الشعر الرائع والفخر القوي البليغ.
٤ - كثرة الخصومات والحروب بين تغلب وبكر، وقد شاهدها الشاعر وأججت ثورة الشاعرية في نفسه.
٥ - الخصومات الأدبية بينه وبين خصمه شاعر بكر الحارث بن حلزة، إلى غير ذلك من بواعث شاعريته.
ج - وأهم أغراض الشعر عند عمرو هو الفخر، ومن أولى من عمرو بن كلثوم بأن يفتخر بمجده ومجد قومه وحسبهم وشرفهم ومحتدهم الرفيع وفخره في معلقته صفحة من تاريخ قومه الحربي والسياسي.
د - ومهما كان فأسلوب عمرو يمتاز بقوته وسلاسته وحلاوته، وتمتاز معانيه بالوضوح وكثرة المبالغة وبالصراحة وروح الصحراء البادية فيه.
[نثر الشاعر]
١ - قال عمرو من خطبة له: أما بعد، فإنه لا يخبر عن فضل المرء أصدق من تركه تزكية نفسه، ولا يعبر عنه في تزكية أصحابه أصدق من اعتماده إياهم برغبته وائتمانه إياهم على حرمته.
٢ - وأوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه، فقال من وصية له: "زوجوا بنات العم بني العم، فإن تعديم بهن إلى الغرباء، فلا تألوا بهن الأكفاء، وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال، فإنه أغض للبصر، وأعف للبشر، ومتى كانت المعاينة واللقاء، ففي ذلك داء من الأدواء، ولا خير فيمن لا يغار لغيره، كما يغار لنفسه. وقل من انتهك حرمة لغيره، إلا انتهكت حرمته، وإذا حدثتم فعوا، وإذا حدثتم فأوجزوا، وموت عاجل خير من ضنى آجل وما بكيت من زمان، إلا دهاني بعده زمان وربما شجاني، من لم يكن أمره عناني، وما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة، واعلموا أن أشجع القوم العطوف وخير الموت تحت ظلال السيوف الخ". (والوصية بتمامها في بلوغ الأرب ج٣) .
[الحارث بن حلزة]
[حياته]
من يشكر بن وائل، فارس مقدام وشاعر مجيد، وسيد من سادات بكر، كما كان عمرو بن كلثوم سيد تغلب وشاعرها، وهو أحد شعراء المعلقات، ومطلع معلقته:
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
وكان سبب إنشاده هذه القصيدة أن عمرو بن هند ملك الحيرة - وكان جباراً عظيم السلطان - جمع بين بكر وتغلب وأصلح بينهم، وأخذ من الحيين رهنا من كل حي مائة غلام. فكف بعضهم عن بعض، وكان أولئك الرهن يكونون معه في سيره يغزون معه، فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون، فقالت تغلب لبكر بن وائل: أعطونا دية غلماننا، فأبت بكر ذلك فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم واجتمعت بكر إلى النعمان بن هرم اليشكري، واجتمع الجمع عند الملك عمرو بن هند، وتلاحى عمرو بن كلثوم والنعمان بن هرم أمام الملك فغضب عمرو بن هند، وكان يؤثر بني تغلب على بكر، واشتد غضبه على بكر والنعمان صاحبهم فقام الحارث بن حلزة وارتجل قصيدته ارتجالاً وهو متوكئ على قوسه، وكان الملك يسمع قصيدة الحارث من وراء حجاب لأنه كان لا يحب رؤية أحد فيه سوء، وكان الحرث به وضح فلما أنشد القصيدة أدناه حتى خلص إليه.. ويقال إن الحارث عندئذ كان طاعنا في السن وكان فوق المائة، وترى أثر السن ونضوجها وحكمتها وحلمها ووقارها في القصيدة واضحاً جليا حيث رد على تغلب في أناة وهدوء وحملها تبعة الحرب واستدرج عمرو بن هند إلى أن يكون في جانب قومه فمدحه ومدح قومه، وبها قضى عمرو لبكر على تغلب، وأطلق رهنهم وكانوا عدة فتيان من أشراف بكر. وقد بدأها بالغزل ووصف الناقة، ثم وصل إلى غرضه من الخصومة بين بكر وتغلب: